عندما فكَّر محمد علي باشا في تأسيس مصلحة الطب الشرعي عام 1820، لم يكن يعلم أنَّه سيكون واحدًا من أدوات التشكيك وليس للتأكيد". المصلحة تم إنشاؤها للكشف عن غموض القضايا، وتحليل عينات المواد المضبوطة لبيان ما إذا كانت من مدرجة كمخدرات من عدمه، والكشف عن قضايا التزوير والطعون فيها بالإجراء الذي يعرف بالاستكتاب للتحقق من الخطوط والإمضاءات. مؤخرًا، كان الجميع ينتظر تقرير مصلحة الطب الشرعي بخصوص "طالبة صفر الثانوية العامة" مريم ملاك، وعندما صدر التقرير ليؤكد أنَّ خط مريم الموجود في كراسات الإجابة الخاصة بها، هو نفس خطها، وأنَّه لا يوجد تزوير أو تبديل لكراسات الإجابة الخاصة بالطالبة، مع صدور التقرير، ارتفعت الأصوات المشكك في حيادية المصلحة، معتمدةً على أنَّ الطب الشرعي هو إدارة تابعة لوزارة العدل، وبالتالي تفتقد للحيادية، إذ أنَّها في النهاية مؤسسة حكومية غير حيادية. هنا نرصد أهم القضايا التي كانت سببًا في توجيه اتهامات للمصلحة بعدم الحيادية والإنحيار.. سليمان خاطر.. مات منتحرًا كثيرون لا يعرفون قصة المجند سليمان خاطر، رغم أنَّ قضيته شغلت الرأي العام عام 1985، المجند كان واقفًا في نقطة مراقبته عندما اقترب مجموعة من الإسرائليين من منطقة غير مسموح لهم التواجد بها قرب الحدود المصرية مع فلسطينالمحتلة، وحاولوا اقتحام نقطة مراقبته، فحذرهم أكثر من مرة بالعودة والرجوع، لكنهم لم يستجيبوا، فأطلق عليهم النار وقتل 12 إسرائيليًّا، آثار الحادث وقتها جدلاً واسعًا، وتعرضت الحكومة المصرية لضغوط شديدة، فصدر قرار جمهوري بموجب قانون الطوارئ بتحويل سليمان خاطر إلى المحكمة العسكرية التي حكمت عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة 25 عامًا. القرار جاء بناءً على تقريرٍ طبي يؤكد إصابته بخلل عقلي، وفي يناير 1986 أعلنت الصحف المصرية خبر انتحر سليمان خاطر في محبسه، وقال البيان الرسمي، الذي وزع على الصحف، أنَّ المجند انتحر بقطعة قماش، وجاء تقرير الطب الشرعي مؤيدًا لما قاله البيان وأكد أنَّ خاطر انتحر بقطعة من القماش لفها حول عنقه مع تعليقها في شباك الزنزانة. لم تنتهِ الحكاية هنا، فأقارب سليمان لم يصدقوا ما جاء بالتقرير الشرعي وأكدوا أنَّ أخلاق المجند لا يمكن أن تدفعه إلى الإقدام على الانتحار، وشدَّدوا على تدينه، وطالبوا بلجنة مستقلة لمعرفة السبب الحقيقي للوفاة إلا أنَّ الطلب تم رفضه ما أدَّى إلى مزيدٍ من التشكيك في تقرير الطب الشرعي. خالد سعيد.. لفافة البانجو التي فجرت الثورة ربما هي الحالة الأشهر للتشكيك في تقارير الطب الشرعي، في 6 يونيو 2010، أُعلنت وفاة خالد سعيد، بعدما تعرَّض للضرب حتى الموت على يد شرطيين بقسم سيدي جابر بالإسكندرية، ورغم أنَّ هناك شهادات على الاعتداء على خالد فإنَّ تقرير الطب الشرعي أعلن سبب وفاة خالد سعيد ب"إسفكسيا الخنق" نتيجة ابتلاع لفافة بانجو. وقرر وقتها المستشار عبد المجيد محمود، النائب العام، إحالة الواقعة التحقيق لنيابة استئناف الإسكندرية، وندب لجنة ثلاثية من مصلحة الطب الشرعي بالقاهرة برئاسة كبير الأطباء الشرعيين لإعادة تشريح الجثة وبيان سبب الوفاة. ومرَّت القضية بعددٍ من المحطات، واستمعت محكمة جنايات الإسكندرية لشهادة الدكتور السباعي أحمد كبير الأطباء الشرعيين، وأكد فيها أنَّ وفاة خالد جاءت نتيجة ابتلاعه لفافة من الحشيش، ومقتله لم يكن بسبب الضرب المبرح من رجال الشرطة بالإسكندرية، وشكك دفاع المتهمين في تقرير الطب الشرعي، واستمر تداول القضية في المحاكم حتى صدر الحكم بشكل نهائي في 4 مارس الماضي بحبس الشرطيين المتهمين بقتل خالد سعيد بالسجن عشر سنوات، لكل منهما. سيد بلال.. التعذيب لا يؤدي للموت بل يؤدي لهبوط حاد بالدورة الدموي شابٌ سلفي، اتهم في قضية تفجير كنيسة القدسيين بالإسكندرية، قبيل ثورة يناير، تمَّ احتجازه لأيام بمقر أمن الدولة بالإسكندرية، ثم تمَّ إعلان وفاته، فأصدر الطب الشرعي تقريرًا مبدئيًا قبل دفن الجثة أكد وجود كدمات وسحجات بجسد بلال دون أن يذكر سبب تلك الآثار. وأرجع سبب الوفاة إلى هبوط حاد بالدورة الدموية، ولم يثبت أنَّه تعرض لعملية تعذيب أثناء التحقيق معه، ولكن التقرير النهائي، الذي أعدته الدكتورة إيمان ياسين، أثبت أنَّه تمت إصابته في الرأس؛ ما أدَّى إلى نزيف بالمخ الذي وصل وزنه إلى 1530 جرامًا بعد تعرضه لنزيف حاد. شيماء الصباغ.. النحافة التي قتلها وليست الرصاصة الفتاة اليسارية التي كانت تشارك في مظاهرة حمل الزهور، لميدان التحرير في ذكرى ثورة يناير قتلت بالرصاص أثناء فض قوات الأمن المظاهرة، إلا أنَّ الدكتور هشام عبد الحميد الناطق باسم مصلحة الطب الشرعي قال في تصريح شهير إنَّ طلقات الخرطوش التي أصابت شيماء الصباغ كان من المفترض ألا تؤدي لموتها لإطلاقها من مسافة ثمانية أمتار لكنها توفيت بسبب نحافتها. هناك أمثلة كثيرة أخرى، مؤخرًا مثلاً، هناك تشكيك في التقارير الطبية التي تصدرها المصلحة بخصوص الحالة المرضية للمتهمين التابعين لجماعة الإخوان أو المتهمين الذي ماتوا في السجون، وتؤكد المصلحة أنَّ وفاتهم طبيعية بينما يتحدث أقاربهم عن موتهم نتيجة لعمليات تعذيب ممنهجة، ويبقى أنَّ الحل الوحيد لإنهاء تلك الحالة من التشكيك، في استقلالية مصلحة الطب الشرعي، وأن تكون كيانًا مستقلًا بحق، بعيدًا عن وزارة العدل، وهو الدور الذي من المفترض أن يتنبه إليه البرلمان المقبل، وأن يضع على رأس أولوياته في التشريعات سن قانون لاستقلال المصلحة عن الوزارة لضمان حياديتها.