كتب - أحمد نبيل «كيفَ أقنعُكَ أنّي لا أريدُ من الحبِ سوى مقعدٍ خشبي نتقاسمُه، وطريقٍ طويلٍ نمشيهِ جنبًا إلى جنب، ووردةٍ تقطفها لي من حديقةِ داركم؟ وهل تصدقني إذا قلت لك إنّ عيوني لا تلمعُ إلا لحنانٍ تجده في عينيك؟ أم أنكَ لن تصدقَ ولن تقتنع.. لأن من طعنوكَ في القلب لم يتركوا لي منه قطعةً سليمة واحدة تصدقُني بها».. يقولها واسيني الأعرج، الذي عندما انتهت الحرب الأهلية، فكرت أن يرجع لحياته الطبيعية، لكنه لم يستطع، لأن حياته الأولى، ببساطة، ماتت مع الحرب.. سلام على من تمر اليوم ذكرى ميلاده، وتحتفي «التحرير» في ذكرى مروره على عالمنا، وتقدم عددًا من القراءات النقدية في أعماله. وهو المولود في مثل اليوم من العام 54، ويشغل اليوم منصب أستاذ كرسي بجامعتي الجزائر المركزية والسوربون بباريس، كما يعتبر أحد أهم الأصوات الروائية في الوطن العربي. على خلاف الجيل التأسيسي الذي سبقه تنتمي أعمال واسيني، الذي يكتب باللغتين العربية والفرنسية، إلى المدرسة الجديدة التي لا تستقر على شكل واحد وثابت، بل تبحث دائمًا عن سبلها التعبيرية الجديدة والحية بالعمل الجاد على اللغة وهز يقينياتها، إن اللغة بهذا المعنى، ليست معطى جاهزًا ومستقرًا ولكنها بحث دائم ومستمر. يقول الكاتب والناقد الأدبي إدريس انفراص، عن رواية الأعرج «مملكة الفراشة»، في دراسة منشورة في العام 2013، وهو العام الذي خرجت فيه الطبعة الأولى من الرواية: يعود الأعرج إلى فترة من تاريخ بلده الجزائر، ليقلب الرماد، ويزيل بقاياه عن الجمرات الثاوية، التي تتقد من تحته ولاتزال، ففي رواية"مملكة الفراشة" يزيح قشرة غبار الأيام عن مآسي الحرب الأهلية التي مضت، ولم تمض في نفس الآن، مضت لأن كل ما جرى طواه الزمن تحت أجنحته ومشى يحمله للنسيان، ولم تمض لأن الجراح لا تزال طرية تنكأها الذكرى وواقع الحال الذي لا يزال يحفر في عمق حياة الناس في البلد، ويرفض الموت، والقتل والجنون والعبث. ويضيف: يرفض أن يندفن تحت التراب ويسعف الأهالي لينسوا بعض المآسي المتراكمة، رواية عن مرحلة موشومة بالدم تشرئب برأسها وتنبعث من تحت التراب مهما حاول الناس أن يهيلوه عليها ويدفنوها في عتمة الذاكرة لتموت، هي مرحلة حرب لا تزال تنز ذكراها من المسام من حين لآخر، وتطفر قطرات الدم الذي انهرق وسال بجنون، لأن كل فرد يكون قد ترك شيئا من نفسه، حين مدت الحرب الأهلية الطائشة يدها تنتزع أخا، أبا، أما، أختا، أو قريبا لتدفنه في جوف المأساة التي ضربت جائحتها أطراف البلاد. وفي منتصف عامنا الجاري، صدر عن دار موزاييك للترجمات والنشر والتوزيع، في عمّان، كتاب «التخييل في عالم واسيني الروائي»، للناقدة الدكتورة رزان إبراهيم، تضمّن قراءات نقدية مغايرة في رواياته، إذ تعرض من خلال هذه القراءات للمنجزين الجمالي والموضوعاتي في أعمال الروائي الجزائري الكبير، كما ضم الكتاب بين دفّتيه 16 حوارا بين رزان إبراهيم والأعرج، حول عمله الأخير "سيرة المنتهى: عشتها كما اشتهتني"، الذي سلسل فيه سيرته بأسلوب روائي. تفتتح المؤلفة الكتاب بمقدمة تكشف من خلالها للقارئ أسباب اختيارها لروايات واسيني كحيّز للدراسة والبحث، كما تحكي من خلالها عن أسلوب واسيني بشكل مقتضب لتسهب في ما يليها بهذا الصدد. وتقول في المقدمة: يحتاج قارئ واسيني الأعرج لعملية تفكيك وتركيب تربط بين ما يبدو صورًا متناثرة مجازية، بما يقتضيها لأمر من معاينة دقيقة لوحدات صغرى توصله إلى البناء الكلي الذي يقف وراءه. فأنت لا تتعامل مع مقاطع ومتواليات صغيرة في رواياته إلا لتعود إليك ليأخذ دلالته ومعناه من الأجزاء، بما يعد تفاعلًا جوهريًا متبادلًا بين الكل والأجزاء. وفي هذا الكتاب تجد ما يدلل على روائي استطاع أن ينفذ إلى قلوب فئة عريضة من القراء عبر رحلة كشف مستمرة هدفها فهم العالم على أمل إعادة التوازن إليه من خلال النقد وطرح الأسئلة، حتى وإن لم تجب عنها. في قراءتها النقدية لنصوص الأعرج تحرص إبراهيم على إبراز جملة من دلالات إنسانية هي في الصميم من غاية المؤلف وقصديته. في وقت تعمل فيه على تحريك النصوص قيد المعالجة وفتحها على عوالم ممكنة تعين على تفسير الإشارات والتدليل عليها. وإذ تعكف الباحثة إلى تأمل نصوص الأعرج فإنها تستعين بمرجعيات نقدية نظرية دون الوقوع في مغبة استسلام تودي إلى تأطير القراءة وتجميدها. وعليه تخلقت قراءة النصوص بفعل آليات خاصة وإجراءات تفسيرية غير محصورة بأدوات ثابتة. وكان همها أن تلج في مسألة الإدراك الجمالي غير المنفصل عما هو ذهني. عمومًا الكتاب يكشف أدبًا توجه من خلال نماذج إنسانية متغايرة نحو حكاية الإنسان العربي ومعاناته. علمًا أن سلسلة من إبداعات متتالية للروائي لم تمنع تفردا تبرزه تحليلات فنية للدارسة تثبت قدرة على تنظيم دلالات تعبيرية أشبه ما تكون بفعل الموسيقي يضع النوتة في المكان واللحظة المناسبة كي لا تضيع في الفراغ ذرة لا يحكمها نظام. وتضيف: كما تطمح من وراء الحوارات وفقًا لما يرد في الكتاب إلى أن تشكل مدخلًا أو نافذة مهمة لقراء تعنيهم قراءة السطور وما يقف خلفها، لا بهدف التوجيه أو إعطاء منحى واحد للفهم أو التفسير، وإنما بهدف فتح الآفاق وإثراء أسئلة تتوالد عبر ما يمكن تسميته تلاقحا في الأفكار. يبقى أن جملة من رؤى نقدية في هذا الكتاب من شأنها دفع القارئ باتجاه تجربة ثقافية ممتدة مسكونة بوقائع بشرية تنطبق عليها مقولة كوليردج "أفضل الكلمات في أفضل نظام".