يُصرّ السعوديون على المضى فى غفلتهم السياسية ويُغمضون العين ويصمّون الأذن عن النصيحة الخالصة لمصلحتهم من خطر التورط بفتح مجال فى أراضيهم ومجالهم لجماعة الإخوان! وكأنهم يُثبتون أن إفاقتهم المحدودة لفترة قصيرة كانت خروجا على خطهم، عندما ساندوا الشعب المصرى بعد نجاحه فى الإطاحة بحكم الإخوان فى انتفاضة 30 يونيو! قيل عندئذٍ إن السعوديين يتداركون خطأهم التاريخى، بعد أن علموا خطر الإخوان على الجميع، لأن دعم الموقف المصرى يحقق لهم مصالح حقيقية تعود مباشرة على أمنهم الوطنى. ولكن، ها هم السعوديون يعودون إلى سابق عهدهم ويكررون ذات الأخطاء، دون محاولة لتذَكُّر عواقبها الوبيلة عليهم، المباشر منها وآجل الأثر، عندما احتضنوا جماعة الإخوان فى مواجهة عبد الناصر لهم قبل نصف القرن! كانت الحسابات قصيرة النظر للسعودية آنذاك، ولم تر إلا خصومتها مع عبد الناصر، ولم تتوقع أن الإخوان سيغدرون بزرع أفكارهم سرا وبتشكيل خلاياهم النائمة فى صفوف السعوديين أنفسهم. وقد صار هؤلاء هم البذرة التى أثمرت أجيالا من الإرهابيين السعوديين! كما وافق السعوديون، وتورط معهم فى ذلك حسنى مبارك ونظامه، أن يكون التصدى للغزو السوفييتى لأفغانستان فى إطار محاربة الملحدين! وكأن هؤلاء جميعا أجهل من أن يدركوا آليات الصراع الدولى الذى كان فى ظل القطبية الثنائية بين الشرق والغرب! ولم يبدُ على أحد من المشاركين فى هذه الجريمة التاريخية أنه أدرك الخطأ، أو أن ضميره السياسى والإنسانى يعترف بالخطأ، حتى وهم يرون الكوادر العائدة من أفغانستان تقترف ما لا يتخيله عقل، بعد أن تشكل وعيُها على التضحية بالروح فى سبيل الدفاع عن الإسلام كما يفهمونه، بتدريب أمريكى وتمويل سعودى وتجنيد من مصر وغيرها. ثم، ومع استمرار العائدين فى نهجهم النضالى/ الإجرامى/ الإرهابى داخل بلادهم، ضد حكامهم وشعوبهم، لم تكن المواجهة ضد الإرهابيين بمنطق أنهم خارجون على القانون، بل بمنطق أنهم خوارج العصر، مُحرِّفو الدين، الجاهلون بسماحة الإسلام، المسيئون إلى صورة الإسلام فى الخارج! يبدو أن الخلل هيكلى فى الاستراتيجية والتكتيك لدى السعوديين، فهم يفضلون فى كل مرة أن يكون إطار صراعاتهم السياسية دينيا، ويحرصون على أن يكونوا فى صورة حماة دين الله بدلا من أن يكونوا مدافعين عن حكمهم، وأن الآخرين جماعة كافرة أو ضالة أو مُحرِّفة أو مهرطقة، بدلا من التعامل معهم على ماهم عليه كأصحاب مَصالِح متعارضة! وها هم فى آخر طبعة، يقررون أن يواجهوا إيران باعتبارها صاحبة المذهب الشيعى الذى يَكنّ عداء للسُّنّة المشرَّفة ويزدرى الصحابة الأجلاء، وأن يكون الانتشار الإيرانى فى الدول العربية، التى تعانى الضعف والتخلف والهشاشة بسبب فساد وجهل الحكم، هو مدّ شيعى، يخترق المدافعين عن سُنّة رسول الله! ولكن، حتى إذا كانت إيران تروِّج للشكل المذهبى للصراع، فلماذا لا يُوضَع الأمرُ فى نصابه وتُفضَح المطامعُ الإيرانية الحقيقية فى الإقليم؟ ومن خلال هذا الفهم الكارثى، كان اختراع جبهة النصرة فى سوريا للإطاحة بحكم الأسد المدعوم من إيران! ثم كان التورط فى القصور الذاتى للالتحام المؤقت بين النُّصرة وتنظيم داعش فى بداية قدومه إلى سوريا من العراق، ثم كان الاعتماد على إخوان اليمن لمواجهة الحوثيين المدعومين من إيران. ثم، هاهم السعوديون يَستدعون مجددا حلفاءهم الإخوان المصريين لدعم الجبهة السنية فى مواجهة إيران الشيعية! بما يترتب عليه تلقائيا مراجعةُ موقفهم من الثورة المصرية التى نجحت فى التخلص من حكم الإخوان، وبما يُتوَقَع معه مبادرات سعودية للمصالحة مع الإخوان فى مصر، بما ينطوى عليه هذا من تحدٍ صارخ واستهانة بإرادة الشعب المصرى. كل هذه الشعوذة تصبّ رياحا دافعة فى شراع التطرف، لأنه يترتب عليها أن من امتلأت رأسه بوجوب التصدى بالسلاح لأصحاب المذاهب الأخرى داخل إطاره الدينى، مرشح بقوة لأن يرفض التجاور فى الوطن مع مواطنيه من أصحاب الأديان الأخرى. ولن يحل الأمر أى نص دستورى يقر باحترام حرية الاعتقاد! يتبدى تهافت المنطق السعودى، أول ما يتبدى، فى التعامل مع تركيا، التى قد تكون أطماعُها أكثر من إيران، مدعومة بخبرات الاحتلال العثمانى للمنطقة لمدة أربعة قرون، وهى على المذهب السنى، مما يُسهِّل لها أن تطرح أسطورة عودة الخلافة الإسلامية، وطبعا بقيادة تركيا، مما يسحب البساط من تحت أقدام السعودية! ويبدو أن حكام السعودية لا يضعون احتمالا إلى أن هناك من يفهم أنهم قائمون على أعجب نظام حكم فى العالم المعاصر، لا يعرف أى انتخابات من أى نوع، ولا يراجع الملكَ عمليا أىُ هيئة حتى من خلال الدائرة الضيقة، وتستولى عائلة حاكمة على ثروة البلاد، ولا يلتفتون إلى استحقاقات الشعب إلا فى إطار الإنعام عليهم بالفتات، كما أنهم يستبدون بالحكم بأسوأ ما يكون الاستبداد، ويطلقون يدَ أكثر الحركات الاجتماعية تخلفا تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويكفى أن من أعراض هذا التخلف المفروض بالقوة تغييب المرأة إلى حد أن تكون الدولة الوحيدة فى العالم غير المسموح فيها للمرأة بقيادة السيارة..إلخ إلخ، وأن يكون كل هذا تحت شعار أن هذا هو التجلى الحقيقى لتطبيق الشريعة الإسلامية. الخطر الأكبر الذى يهدد الحكم السعودى ليس من إيران ولا من أى عامل خارجى وإنما من داخلها حيث الظلم البشع على الأغلبية الساحقة من السكان، لأن المتوقع أن يفتقد الحكام السعوديون من يتحمس من أبناء الشعب للدفاع عنهم، مع الدور التخريبى لخلايا الإخوان المتواطئة مع الخارج، وذلك عندما تنضج الأحوال وتخرج المؤامرات من الملفات إلى أرض الواقع، وقد صار هذا قريبا جدا! دع عنك الحماس الآنى من القوات السعودية المقاتلة فى اليمن، التى تدفع بها السلطة السعودية وهى تبدو بوهم أنها فى كامل قوتها!