يبدو أننا شعب طيب «أكثر من اللزوم»، وقد يصل بنا الحال إلى حد السذاجة إن لم يكن العبط، وأعتذر عن وقاحة ألفاظى، فما يحدث فينا ولنا يفوق أى قدر من الوقاحة والبذاءة وقلة الأدب، فكلنا اندفعنا إلى مشهد الفعل الفاضح فى المواطن حمادة وتجريده من ثيابه على الملأ وعرض عوراته على الجمهور، وهم يذلونه ويهنونه ويسحلونه ويضربونه بالأحذية، كما لو أننا ضبطنا جريمة إنسانية حاول مرتكبوها إخفاء تفاصيلها عنا، والتكتيم عليها، حتى لا نشعر بها.. وأن كاميرا تليفزيون «الحياة» الذكية المجتهدة، لاحقت الجريمة بالتصوير والتسجيل خفية، ليُذاع على الناس فى أهم برنامج توك شو فى مصر حاليًّا! آسف جدًّا.. لن أصدق هذا التفسير الأهبل أو الأهطل، وإذا صدقناه لأصبحنا جزءًا من اللعبة وشركاء فى الجريمة. طبعًا لا أنكر الجهد المهنى المحترف الذى قامت به قناة «الحياة»، وأشد على أيدى طاقم العمل بحرارة، لكن ما صنعوه هو عمل فنى بحت، أما التفسير فهو أمر آخر. وأظن -وكل ظنى حلال كما أن بعضه إثم- أن ما حدث رسالة مقصودة، وليست عشوائية أو بالمصادفة، ويستحيل أن أستبعد أن أجهزة الأمن كانت على علم تامّ بكل كاميرا تليفزيونية تترقب المشاهد الساخنة أمام قصر الاتحادية، وقطعا كاميرات القصر كانت ترصد أولًا بأول كل ما يدور خارجه، وتعرف بدقة مكان كل كاميرا وكل طاقم يعمل فى محيط القصر، وتتابع التسجيلات، والتسجيل والمتابعة لا يعنيان قدرة أهل القصر على منع أو تعطيل الإعلام، لكن تتيح استغلال الصورة ونشر تصورات عن المشهد المثير توحى بغير حقيقته، فالصورة خادعة وليست قاطعة، فزوايا التصوير ولحظة الإمساك بالمشهد واستخدام بؤر العدسة اللاقطة، يمكن أن يخدع ملايين المشاهدين فى المنازل. ولا أريد أن أذهب بعيدا إلى الحادى عشر من سبتمبر 2001، فى أعظم مشاهد خداع تعرضت لها البشرية فى تاريخها كله، فمئات الملايين تابعوا الهجوم الإرهابى على مركز التجارة العالمى فى نيويورك لحظة بلحظة، والطائرة تقتحمه وتنفجر داخله، وقلوبهم انفجرت وهم يرون عشرات البشر الأبرياء يلقون بأنفسهم من شاهق البرج، فربما الموت سقوطا أرحم من الموت حرقا. وبعد دقائق من المشهد الدراماتيكى المأساوى الذى عطل ملايين العقول عن التفكير وحولها إلى مستقبِلات خاضعة لما تراه كما لو أنها منوَّمة مغناطيسيًّا، أخذ البرج العالمى يترنح وينهار عموديا على نفسه! وصدقنا جميعا أن الطائرة المنتحرة أسقطت البرج، ولم يكن ذلك صحيحا على الإطلاق، وقد أثبتت الأبحاث العلمية ومنها بحث مهم جدًّا لمركز الفلزات الأمريكى -وهو منشور فى أكثر من كتاب- أن الحرارة الناتجة من انفجار الطائرة داخل البرج من المستحيل أن تذيب أعمدته الحديدية فتتقوس وتنهار، وفندت الدراسة كل التفسيرات الرسمية التى تَقنَّعَت بها الإدارة الأمريكية، وقالت إن انهيار المركز كان تفجيرًا فى الأعمدة حتى يسقط عموديًّا. لكن لا العالم سمع التفسير العلمى ولا أخذ به، ولا اهتمَّت الإدارة الأمريكية بما قيل، فالغرض المطلوب من المشاهد الخادعة تم، واندلعت «الحرب على الإرهاب»، واحتلت الولاياتالمتحدةأفغانستان والعراق، إلخ، ولم يعد أحد مهتمًّا بحقيقة ما جرى فى الحادى عشر من سبتمبر 2001، كما هو الحال فى جريمة اغتيال الرئيس جون كنيدى الغامض! فعلًا لا أريد أن أذهب بكم بعيدًا إلى نيويورك، ويكفى ما نراه على قناة «الجزيرة» بتأمُّل، لندرك حجم الخديعة التى نتعرض لها منذ سنوات وما زلنا، وهذا موضوع آخر يطول شرحه. نعود إلى حمادة وما جرى له أمام «الاتحادية» وأُذيعَ على الملايين، واسمحوا لى أن أقول لكم إن ما رأيتموه كان مقصودا وممنهجا، لا أقصد أنهم طلبوا من الجنود سحل حمادة علنا أمام الكاميرا، لكنهم تغاضوا عنه، وتركوا الواقعة تستكمل كل مشاهدها، بل إن بعض المشاهد تكررت ذهابًا وإيابًا دون سبب، مثل قيامه مرتبكًا فى ثيابه الداخلية التحتية وهى تعرقل خطواته المبتعدة عن سيارة الشرطة، ثم عودته مرة ثانية ليعاودوا ضربه وسحله، ثم يبتعد.. وقَطْعًا لم يكن جنود الشرطة أو عساكر الشطرنج يعرفون شيئًا عن الكاميرا الخفية، هم فقط كانوا ينفذون تعليمات صارمة فى التعامل مع من يقع تحت أيديهم! رسالة مقصودة وليست عفوية، وما يؤكد ذلك ما تلاها من أحداث، فحمادة بغباء متعمَّد ينفى أن الشرطة عرَّته وسحلته، ويقول فى النيابة إن المتظاهرين هم الذين ارتكبوا الأفعال القبيحة ضده والشرطة حاولت حمايته.. وطبعا حمادة ليس مجنونًا لينكر ما رأه الناس جميعا بعيونهم التى سيأكلها الدود. هذا جزء من المشهد المخطَّط، وهو صناعة اللخبطة حتى تمر الرسالة من ثناياها.. فالتفسير المنطقى أن حمادة قد تَعرَّض لضغوط شديدة وتهديدات هائلة، أجبرته أن يبلع كرامته أو يلقى بها فى أقرب سلة مهملات.. بل إن البعض راح يستنتج ويسأل: يا ترى ما التهديدات التى تدفع بمواطن شريف لينتحر إنسانيًّا على الملأ؟ فإنكار حمادة للواقعة يشبه فتاة ليل تقف فى ميدان عامّ تروِّج لجسدها بالصوت والصورة! وتراوحت الإجابات والاستنتاجات: مؤكَّد أنهم هدَّدوه تهديدًا مخيفًا يتجاوز قطع الرزق والاعتقال.. بالقطع قالوا له إنهم سيفعلون ذلك فى زوجته وربما ابنتيه، أمام عينيه، وربما أبعد من ذلك.. «وأحسن لك تلمّ الدور وتروَّح بيتكم بعد علاج فى مستشفى أجدع واحد فى عيلتكم ما يحلمش يدخله.. مش يتعالج فيه». وقَطْعًا الداخلية تدرك أن الناس يستحيل أن تصدق أقوال حمادة فى النيابة، لأنها فى نفس الوقت اعترفت بالواقعة وعملت نفسها غاضبة ومُحرَجة.. لكنها سمحت بأقوال حمادة ووفرت له وسيلة الاتصال التليفونى بالتليفزيون المصرى الرسمى.. ليعلن الإنكار فى مواجهة الاعتراف، وهى متوقعة ردود الأفعال.. فالأهم لها أن تظهر فى صورة الباطش الجبار الذى يجبر مواطنًا امتُهن شرفه وكرامته على الكذب علنًا وينكر من فرط رعبه حقيقة ساطعة مثل عين الشمس. هذا أول دليل جعل كل فئران العالم تلعب فى عبى. إذن المهانة مقصودة عَلَنًا، والواقعة برُمَّتها رسالة إلى كل مواطن ومتظاهر! وهى تقول باختصار: أولًا: أى مواطن يتصور أن الذهاب إلى «الاتحادية» أو التحرير أو غيرهما من الأماكن الغاضبة نزهة ثورية فهو الجانى على نفسه، والعيِّنة من نفس ما ذاقه حمادة وقابلة للتكرار. ثانيًا: الشرطة تعلن لنا بملء الفم أن معها «كارت بلانش» من رئيس الجمهورية لتفعل ما تريد بالطريقة التى تريحنا من وجع الدماغ. ولعب العيال بتاع الثورجية.. هذا غير قانون تحجيم التظاهر. ثالثًا: اتركوا لنا المتظاهرين الحقيقيين دون أى مساندة شعبية يتحملوا وزر مظاهراتهم واعتراضاتهم على الجماعة، وعليهم أن يتحملوا ثمن ما يصنعون! يعنى جماعة الإخوان وقعت فى نفس فخ تفسير الرئيس حسنى مبارك وحبيب العادلى للحشود الجماهيرية فى الميادين العامة خلال ثورة 25 يناير، ثلثٌ متفرجون لا ناقة لهم ولا جمل، وثلثٌ متظاهرون مستقلون وتيارات سياسية وشباب غاضب، وثلثٌ إخوان مسلمون. إذن لو حذفنا من المشهد الغاضب: المتفرجين وغير الثوريين، فسوف تنكشف المظاهرات على حقيقتها، ولكى يحدث هذا، لا بد من رسالة قوية صادمة، نستطيع أن نتحمل نتائجها ونعتذر عنها بكل السبل، المهمّ أن تصل إلى كل ربوع مصر ويشعر بها كل مواطن وهى تمسّ قدس الأقداس فى الضمير المصرى وهو الجسد، وتظل صورته البشعة عالقة بالأذهان، تصاحبها، تهدِّدها، تحذِّرها، تفتّ فى عَضُدها، فمثل هذه الأحداث الفردية يمكن أن تتكرر.. وتكون أنت ضحيتها التالية، وهذه مجرد عيِّنة، فالجماعات الدينية المسلَّحة التى أذاقت المصريين الويل والقتل فى السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى لم تنزل حتى الآن.. والحرس الثورى تَقدَّم بطلب التشكيل للرئيس ولم ينَل الموافقة بعد، فاقبع فى بيتك، والزم كنبتك، وكفاية عليك متابعة الأحداث فى التليفزيون، وإذا كان عندك رأى مخالف لنا، فاحتفظ به لصندوق الانتخابات.. عاش الإخوان وعاش مشروع النهضة وعاشت عمليات التمكين! أما عمليات القتل المنظَّم للثوار فى التحرير والميادين فتتولاه الآن فرق خاصة تندسّ وسط المظاهرات، وتنتقى ضحاياها بدقة مدهشة، وتتخلص منها واحدًا وراء آخر، فالكلام دومًا عن البلطجية والمسجلين خطرًا، لكن الضحايا طول الوقت من الثوار فقط منذ 25 يناير الماضى، دون أن يسقط بلطجى واحد، لا فى بورسعيد ولا فى الإسماعيلية ولا فى السويس ولا أمام فندق «سميراميس» وهو يُسرَق أمام قوات الأمن ولا على كوبرى قصر النيل! لكن يا سيادة الرئيس.. هذه الأفعال المجرمة هى مصدر كل الشرور، وفى مقدمتها موجات من العنف لا تتوقف!