يريد منظرو التيارات الإسلامية هذه الساعة أن يقتصر الأمر على إدانة العنف الذى ينسبونه إلى شباب البلاك بلوك والسعى لإقناع الرأى العام بضرورة التصدى لهم، وكأنهم هم البلاء الوحيد الذى يضرب البلاد الآن. وأما إذا كان هناك رأى بأن هؤلاء الشباب هم ردّ فعل على استفزازات الميليشيات الإسلامية، الإخوانية والجهادية والحازمية، طوال الشهور الماضية، فسوف يشن الإسلاميون على صاحب هذا الرأى هجوما ضاريا يتهمونه فيه بأنه يبرر الإرهاب وأنه يشارك فى مؤامرة لتشويه صورة الإسلاميين وأنه يعمل على الانقلاب على الشرعية. وللأسف فإن عددا من الإعتذاريين المتخصصين فى الدفاع عن الإخوان لم يعدموا تبريرات للشباب الإسلامى النقى المتحمس حتى عندما كانوا يعتدون على الكنائس والمنشآت الإعلامية والمحاكم ويمنعون القضاة من أداء عملهم، ويهاجمون بالمتفجرات بعض مقار الأحزاب المعارضة لهم سياسيا، طوال ما بعد أحداث الثورة، بل لم ير هؤلاء الاعتذاريون ما يستحق الوقوف أمام دعوات هدم الآثار بزعم الوثنية، وإنما كانوا يشفقون على أصحابها باعتبارهم مرضى! ولكنهم الآن لا يرون الخوف إلا فى البلاك بلوك!! وكأن المقصود هو أن ترتدّ العقول إلى البدائية، حيث ترتع الخرافة والميتافيزيقا، ليجرى التعامل مع الظواهر بمعزل عن بعضها البعض وتقتصر الرؤية على ما يبدو على سطح كل منها دون النظر إلى الأسباب المُحَرِّكة، وكأننا لا نعيش القرن الواحد والعشرين. العلم يقول إن الظواهر متداخلة وتؤثر فى بعضها البعض، كما لا يمكن تقبل أن يكون السبب الوحيد لظاهرة البلاك بلوك هو عنف الإسلاميين وإنما هناك أسباب أخرى ينبغى أن تخضع للبحث العلمى للتوصل إليها، كما أن الواجب يقتضى الإدانة الحاسمة بأوضح الكلمات وأقواها لأى عنف يبدر من البلاك بلوك أو من غيرهم، مع ضرورة العمل على أن تلتزم كل الدعوات بالأساليب السلمية والتصدى بحسم لكل من يستخدم العنف أو يلوِّح باستخدامه أيا من كان، مع وجوب تثقيف الشباب بأن التستر وراء قناع ينطوى على إضعاف لحجتهم وتشويه لموقفهم السياسى، كما أنه غطاء قد يتستر خلفه من يُخرِّب ويعتدى على الناس. ولكن، ها هى ماكينة التشريع التى باتت مؤممة لصالح الإخوان تغمض العين وتسعى لاستصدار تشريع يُجرِّم التقنع أو التلثم، ولا يمتد بصر سائقى هذه الماكينة إلى أن مسعاهم سوف يضعهم فى مآزق تصطدم مع تصوراتهم الأساسية، مثلا: ماذا سوف يفعلون إذا كان فى صفوف البلاك بلوك نساء لا فرق بين لثامهن والنقاب الذى يعتمدونه؟ وألا تؤدى دعوتهم الأخيرة إلى اصطدام مع دعوتهم الأولى المدافعة عن النقاب، إما لما يرونه فرضا دينيا أو حرية شخصية؟ ومن سيتولى رفع النقاب عندئذٍ؟ هل ستتولى هذه المهمة أخت من شعبة المرأة فى الجماعة؟ ولكنهم يحثون الأخوات على ارتداء النقاب! وألا يُعتبر هذا تدخلا فى أعمال الشرطة المنوط بها فى هذه الحالة تطبيق القانون؟ أليس من حق الشرطة، بل من واجبها، فى حال استصدار هذا التشريع، أن ترتاب فى بعض من يظهر فى زى امرأة منتقبة فى صفوف تظاهرات التيارات الإسلامية، إذا ما حامت شبهات أن تحت النقاب سلاحا أو رجلا متنكرا؟ وفى هذه التظاهرات مجموعات غير قليلة من الأخوات المنتقبات اللائى لا يختلف مظهرهن كثيرا عن البلاك بلوك؟ وماذا سوف تكون ردود أفعال المتظاهرين الإسلاميين إذا أصرّ رجال الشرطة على القبض على المشتبه فيهن وإخضاعهن للتفتيش؟ هل سيُطبَّق عليهن القانون المزمع إصداره ويُجبَرن على السفور فى المظاهرات؟ أم سوف يُغض الطرف عنهن لتزداد المفارقات والازدواج فى المعايير الذى بات من أهم ملامح حُكم الإخوان وحلفائهم؟ وماذا سوف تفعل المنتقبات فى حياتهن العادية، خاصة أن السماح لهن بالتحرك بحرية قد يكون منفذا للبلاك بلوك أن يرتدوا زى المنتقبات؟ مع ملاحظة أن الأمن ضبط فى السنوات الماضية عددا من عتاة المجرمين يتنكرون فى زى المنتقبات ستارا لهم ليقوموا بجرائمهم فى حرية وطمأنينة! ألا يتذكر هؤلاء المشرعون الآن الحجج التى كانت تكررها الدول الأوروبية الرافضة للنقاب على أراضيها لدواعى الأمن، وألا يتذكرون أنهم لم يقبلوا هذه الحجج آنذاك وأنهم شنوا هجوما حادا على أوروبا واتهموها بمعاداة الإسلام وعدم احترام خصوصيات المسلمين؟ هذه روائح أيام مبارك الأخيرة، بكل أخطائها وحماقاتها وتبجحاتها! ولكن، من يتعلم؟ ومن يتعظ؟! لقد كانت النظرة السطحية لما يحدث، حتى ما قبل الذكرى الثانية للثورة، تغوى الإخوان وحلفائهم بالإيغال فى العناد والتعنت والإصرار على تحقيق مخططاتهم الضيقة وازدراء الآخرين مطمئنين إلى أن يدهم طالت البعيد بعد أن استحوذت على القريب، وأن هلاوس التمكين على الأبواب! وفى المقابل، تلبس الإحباط الكثير من معارضى التيارات الإسلامية بأن الثورة فشلت وأن الدولة قد آلت فى حجر الإخوان. ثم إذا بالعافية تدبّ من جديد ويخرج الشباب مجددا بعد أن لحق بالركب جيل جديد أكثر طموحا وأوضح رؤية وأمضى فى رفضه لأنصاف الحلول. وكما رفضت طلائع يناير 2011 كلا من مبارك وأحزابه الكرتونية التى كانت تتلقن أن تقوم بدور المعارض، جاءت هبّة يناير 2013 ترفض الإخوان ومن يستسلمون لقواعدهم فى اللعب، وقد تجلت هذه المواقف الجديدة فى أكبر مدن البلاد وبعضها كان يُصنَّف تاريخيا بأنه من معاقل الإخوان والسلفيين. وقد انتبهت جبهة الإنقاذ إلى خطورة التلكؤ الذى يعرضها لرفض جموع الشعب بعد أن صار يتصدر الحركة، وأدركت العبث فى حوارات يتورطون فى المشاركة فيها ثم تصدر فى أعقابها قرارات لا يعرفون عنها شيئا، فيبدو الأمر للجماهير وكأنهم كانوا يتحاورون حولها! ولكن البعض يتعمد أن يبتسر الحدث المُرَكَّب ويجتزئ ما يريد أن يجتزئه ليشوِّه الواقع، فيشيح عن كل هذا ويشير بإصبعه إلى شباب البلاك بلوك وكأنهم كل شيئ، وأن يُعزى أحداث بور سعيد فقط إلى أحكام القضاء بالإدانة فى مذبحة الاستاد! ولما كان النظر مخطئا، كان من المنطقى أن تخطئ القرارات، مثلما حدث فى فرض حالة الطوارئ وحظر التجول فى مدن القناة! وهل هنالك فى عالم السياسة خطأ أفدح من التطوع باتخاذ قرار يستهدف إثبات القوة فينكشف العجز عن فرضه وإلزام الناس به! لقد تعرضت هيبة الحُكم للمهانة بسبب القرار الذى اتخذته جماعة الإخوان المسلمين ومررته للرئيس لإصداره، كما صرّح أحد قادة الإخوان، وزاد من عبث الموقف أن يغادر الرئيس البلاد فى مهمة خارجية مدرجة سلفا، فى حين يقطع رؤساء الدول سفرهم فى الخارج ويعودون إلى أوطانهم فى ظروف أقل أهمية مما نتعرض له الآن، كما غاب عن مواقع الأحداث كل ممثلى الحكومة وقيادات الجماعة وحزبها، واستهزأ أبناء القناة بالقرار وتعمدوا خرقه بإقامة حفلات السمر فى الشوارع على دقات السمسمية، بل بإقامة مباريات كرة القدم مع بداية الحظر! وقال البورسعيدية بخفة دمهم المعهودة إن ساعة «الحظر» ما تتعوضش! وأطلق بعضهم على مبارياتهم «دورى حظر التجول»!