قبل أسابيع، وفى مساء اليوم نفسه الذى أصدر فيه فضيلة الشيخ الدكتور «ذراع» الجماعة الرئاسية إعلانه غير الدستورى الذى منح به نفس فضيلته واغتصب سلطات واختصاصات خرافية، بعضها مما يحتكره المولى تعالى وحده، فوجئت وأنا ماشى فى أحد الشوارع بضابط شرطة كبير يندفع نحوى ويعترض طريقى، بينما هو يبتسم ابتسامة واسعة طمأنتنى وبددت ظنا سيئا عبر لحظة أفق خيالى، ومع ذلك هتفت فى الرجل مبتسما أنا كمان: شكلك كده عايز تعتقلنى؟! تحولت ابتسامة الضابط الكبير إلى ضحكة مجلجلة، ثم مد يده لى مصافحا وهو يقول بجزل وفرح طفوليين: وح اعتقلك ليه يا أستاذ فلان، ده أنا لمحتك ماشى فقلت أسلِّم عليك وأبارك لك بالمرة.. ألف مبروك.. ألف ألف مبروك! على ماذا؟! (هكذا سألته). على النجاح الساحق الذى حققته الثورة بتاعتكم.. والله بجد، ألف مبروك عليكم وعلينا.. تعيشوا وتثوروا وتودونا فى ستين داهية كمان وكمان.. متشكرين قوى. فهمت قصد الرجل ولملمت أشلاء ابتسامتى وعدت إلى حالتى الأصلية حزينا مبتئسا، وبعد فترة صمت قليلة، قلت للضابط: الآن عندك حق تفرح وتشمت فينا كما تريد، لكنى أبشرك بأن المشهد المؤذى المخزى الحالى لم ولن يكون المشهد الأخير، إن شاء الله.. ثم دعنى أذكرك بأن كل هذا الوسخ والعفن لم يهبط علينا فجأة من السماء ولم تخترعه الثورة، بل هو إرث تراكم على مدى سنين وعقود الخراب والبؤس التى رقد فيها نظام المخلوع أفندى بتاعك وولده فوق صدورنا. استمع الضابط إلى كلامى وبدا متأثرا بانفعالى، إذ غادرت وجهه ملامح الحبور والسرور العبيطة التى بدأ بها، وقد حاول أن يجادلنى ويبرئ نفسه من تهمة مناصرة المخلوع، لكنى لم أكن فى حالة مزاجية تسمح بالجدل.. فقط عندما قال ما معناه إن الذين سقطت فى أياديهم أول ثمار الثورة هم قوم يعادونها ويكرهون كل شعاراتها وأهدافها، اكتفيت بإيماءة حركية وصوتية تدل على اقتناعى وموافقتى، ثم مددت له يدى مصافحا وأنا أكرر عبارة: هذا ليس المشهد الأخير، وأضفت: أن كل ما تفعله جماعة الشر حاليا أنها تستعجل الفوز بمصير المخلوع بتاعك (اعترض على الكلمة الأخيرة) فحسب، وربنا يدينا ويديك العمر لكى ترى ونرى معك نهايتهم السوداء.. سلامو عليكو. والآن أعترف بأن هذا الذى قلته فى الشارع لضابط الشرطة الكبير ربما كان بعضه مردودا وقتها إلى الاستفزاز والغيظ والانفعال أكثر منه قناعة تامة وإيمان راسخ، غير أن خروج ملايين المصريين إلى الشوارع بعد ثلاثة أيام من هذه الليلة الكئيبة، وزحفهم نحو القصر الرئاسى حتى سدوا بلحمهم الحى الأفق كله من حوله، بينما هم يهتفون بشعارات الغضب والاشمئزاز من عربدات «جماعة الشر» وتهورها الغشيم، هذا المشهد العظيم ثَبّت فى صدرى الإيمان بالنصر، وأقنعنى أن المجتمع يقاوم بضراوة وبسالة، وأن قواه الحية التى فجرت الثورة (المنشولة حاليا) وصاغت شعاراتها الراقية ورسمت أهدافها النبيلة وظلت قابضة عليها تحرسها من الزيف والكذب والإجرام عامين كاملين، هؤلاء لن يقعدوا أو يستسلموا لقوى الظلام والتأخر والاغتصاب، مهما زادت شرورها وأمعنت فى الفشل والخيبة القوية وغاصت أكثر فى مستنقع البلطجة والغباء، بالعكس هم يقربون يوم الخلاص من عارهم.. وعلى كل من يشك أن يسأل نفسه عما جناه المخلوع من الموبقات التى ارتكبها وراكمها نظامه، ابتداء من النهب والسطو المسلح على السلطة والثروة وتزوير كل انتخابات، وانتهاء بالتبعية المذلة لأمريكا وإسرائيل وتفصيل نصوص دستورية على مقاس ابنه! أهين واتبهدل وذهب إلى مزبلة التاريخ.. أليس كذلك؟! كذلك لن ينفع الست «جماعة الشر» دستورها المشموم، ولا الدعم الأمريكى القطرى (المتغطى بواشنطن عريان فما بالك بالدوحة) ولا مجلسها العائلى الباطل الذى يطبخ لها هذه الأيام تشريعات عار وشنار بعضها (قانون الصكوك المشؤوم) يفتح الباب واسعا لبيع ثروات مصر ومقدراتها على الأرصفة لأى صايع، وبعضها الآخر يجرى تفصيله لكى يتم تزوير الانتخابات من المنبع وتزييف إرادة المصريين، قبل أن تبدأ عمليات الاقتراع أصلا.. فهل كل هذا سينجى الست الشريرة من مصيرها المحتوم؟! أبدا والله، سيستعجله فقط.