للقطارات حيز من تجربتى الصعبة.. حيز يجعلنى من ضحاياها غير المباشرين، إذا ما اعتبرت أنها إن لم تود بحياتى فقد أخرجتنى عن قضبان حياتى العملية ولو فى جزء منها.. كان ذلك فى خريف 2009 وحكومة نظيف تحتفل بتوقيع إلكترونى للشيك أو ما يشبه ذلك.. فى نفس الوقت الذى كانت تعانى فيه القاهرة من مشكلة تراكم القمامة.. الصدفة جعلتنى ضيفة على برنامج «العاشرة مساء» ومقدمته منى الشاذلى.. كانت المفارقة مثيرة للسخرية.. حكومة تحتفل بالتوقيع الإلكترونى للشيك وتعجز عن رفع القمامة.. كنت أميل إلى تأصيل ما نراه من مجريات للأمور.. ولما كان الكلام وقتها عن فشل الحكومة فى حل مشكلة رفع القمامة، فقد رأيت فى الأمر نموذجا واضحا ليس فقط فى «الإدارة» الفاشلة، ولكن فى انفصال تلك الإدارة عن الناس.. وقتها امتدت تداعيات الحوار إلى ما رأيت فيها انفصالا للقاطرة.. عن القطار. انفصال هؤلاء القائمين على حكمنا وإدارة شؤون حياتنا.. عنا. مضت الليلة، وأعقبها يومان ثم فاجأنى الدكتور محمود عمارة، المستثمر الشهير والكاتب بمقال فى «المصرى اليوم» يعلق فيه عما رآه معنى دالا استوقفه وكرسه هو فكرة «انفصال القاطرة.. عن القطار». وقدم لمقاله بتحية وجهها إلى شخص الضعيف الفقير إلى الله، دون أن يدرك ما سوف يحدثه ذلك.. كنا على أعتاب بدء دورة معرض فرانكفورت الدولى للكتاب، وهو أحد معارض دولية ثلاثة كنت أحرص على متابعتها سنويا، خدمة رئيسية لصفحة متخصصة للكتاب، أنشأتها وقدمت لها خلاصة مشوار عمرى فى الصحافة قبل هذا التاريخ بعشر سنوات، واستطاعت هذه الصفحة على مدى السنين أن تقوى وتشتد أجنحتها حتى صارت ذات كيان، وليس هذا مجال الكلام، لكن المهم.. بموافقة من رئيس مجلس إدارة «الأهرام» فى ذلك الوقت د.عبد المنعم سعيد، سافرت إلى فرانكفورت ومعرضها الذى هو بمثابة قمة ثقافية سنوية، تعقد فى إطار من بهجة المعرفة، تلك البهجة القادرة على إمدادك بإحساس فياض بالحياة والزخم والتجدد.. كنت أرتب دائما لتلك الرحلة بحيث تكون العودة فجرا، وكثيرا ما كنت أتجه من المطار إلى مكتبى فرحة.. جياشة بطزاجة صيدى لقارئ أشعر وكأنى أعرفه فى انتظار ما سوف أحطه تحت عينيه، وقد كنت أنا عيناه على العالم.. فى هذه المرة آثرت أن أمر على بيتى، أترك حقيبتى وأعود بأوراقى وصورى إلى «الأهرام»، فلا وقت أضيعه، لأن موعد ظهور الصفحة فى الغد. فى طريق عودتى إلى «الأهرام» رن جرس هاتفى.. كان على الطرف الآخر الزميل مدير تحرير «الأهرام» وقتها الأستاذ حازم عبد الرحمن.. سألنى.. إنت فين يا أستاذة.. قلت فى طريقى إلى «الأهرام».. خير فى حاجة..؟ قال: لا، أصل الأستاذ أسامة سرايا شالك من الصفحة. لم أفهم للوهلة الأولى.. فطلبت الإعادة.. قال الزميل نفس العبارة بصوت محايد.. وانتهت المكالمة. يعنى إيه..؟ لم يكن أمامى إلا الاستمرار فى طريقى بالسيارة، وقد كنت بالفعل قبل بوابة «الأهرام» بشارعين، كان من الطبيعى أن أحاول أن أفهم ما يجرى، أنا مسافرة لمعرض فرانكفورت فى مهمة عمل رسمية وبموافقة المؤسسة.. فما معنى أن الأستاذ أسامة سرايا «شالنى» من الصفحة. حاولت الاتصال برئيس التحرير على مدى نصف نهار دون جدوى.. لا بالتليفون ولا عن طريق المقابلة الشخصية.. وضعت أوراقى -صيدى الثمين- والصور فوق المكتب ورحت أنظر إليها.. ماذا أفعل بها. طبعا هناك تفاصيل كثيرة لكن بقيت من الإثنين إلى الخميس أحاول أن أفهم دون جدوى. فى يوم الجمعة اكتشفت مواطن متكورة فى جسدى فى يوم السبت، أجريت تحليلات أكدت إصابتى بالسرطان على مدى أيام أسبوع، بدأ بالسبت، كنت كعب داير على المعامل والمستشفيات، لكن ذلك لم يمنع رنين تليفونى من أن يحمل لى تفسيرا لما جرى.. رئيس التحرير يرد على من يسأله لماذا «شيلت» ماجدة (لاحظ اللفظ شال) من الصفحة التى أسستها وبكل تواضع نجحت بها.. كان رده (أصلها بتشتم الرئيس فى التليفزيون).. بعض فاعلى الخير كانوا ينقلون ثنايا من ثورة فى اجتماعات التحرير الصباحية عن الموقف الذى لا يمكن السكوت عليه، كيف لواحدة مسؤولة عن صفحة ورئىس تحرير لمجلة أطفال «الأهرام» أن تشتم الرئىس.. أما كيف شتمت الرئيس؟ فقد قالت إن القاطرة.. انفصلت عن القطار. يوما ما سوف أدون تفاصيل ما جرى.. لكن الجزء الذى يرتبط بما يجرى اليوم هو أنه جملة «انفصال القاطرة عن القطار»، كانت وراء هذا ليس فقط (شيلى من صفحة كنت مسؤولة عنها لما يقرب من أحد عشر عاما، ولكن أيضا من مسؤولية رئاسة تحرير مجلة الأطفال، بل لنقل إنها أحالتنى إلى التقاعد والمعاش فى سن السابعة والخمسين. والذى ظل دون توقيع حتى وقَّع عليه السيد رئيس مجلس إدارة «الأهرام» الحالى.. قبل أسبوعين. طب لو أن جملة «انفصال القاطرة عن القطار» قد خربت حياتى المهنية التى دخلتها وعمرى ثمانية عشر عاما، فماذا يمكن أن تفعل جملة أن القطار اليوم بلا قاطرة ولا قضبان؟ مصر بلا قاطرة.