«طيرى يا طيارة طيرى يا ورق وخيطان.. بدّى أرجع بنت صغيرة على سطح الجيران». فيروز ونحن صغار كانت صناعة الطائرات الورقية إحدى الهوايات الرفيعة التى صادفت طفولتنا. فى البداية كنا نطيّر الطائرات داخل شوارعنا، بين العمارات، فى الملاقف، فوق أسطح البيوت، بفائض هواء العصارى المخزون بها، لترتفع بعيدا متجاوزة أسطح مبانى الحى القصيرة، لتمتلك وحدها هذا الفضاء وهذه الطبقة القريبة من السماء، الذى لا يشاركها فيها أحد، باستثناء الطيور. كانت السماء مفتوحة، لا شىء يسيطر عليها أو يعطِّل ظهورها الكامل لنا. طريقة عمل الطائرة فى غاية البساطة، ولكن رغم هذه البساطة وقلة مكوناتها، فليست كل الطائرات كانت قادرة أن تسلك طريقها. طائرات بُذل فيها الكثير من الجهد والتزيين، لكنها لم تَطِر أبعد من قامة صاحبها. يتم تجهيز هيكل الطائرة ثُمانى، أو سُداسى، الأوجه من سيقان البوص، المشطور من المنتصف، نظرا إلى خفّته. يلصق على هذا الهيكل ورق ملوّن، كنا نستعمله زمان فى تجليد الكراسات، خفيف الوزن إضافة إلى تعدد ألوانه، وهو ما لا يتوفر فى غيره من أنواع الورق، مع متانته النسبية. أحيانا كل مثلث من مثلثات الهيكل يُخصَّص له لون، ويتم لصقها بالهيكل بواسطة عجينة مصنوعة من الدقيق والماء وقليل من الملح وتُسخَّن قليلا على النار. ثم تأتى مرحلة الذيل، ويتكون من شرائط صغيرة من نفس ورق جسم الطائرة تُربط أو تُلصَق بخيطين طويلين خارجين من جانبى الطائرة ثم يلتحمان قرب النهاية ليشكلا خيطا واحدا، مثل ذيل فستان العروسة، كلما ازداد طوله ازداد الفستان جمالا، واتخذت الطائرة وضعا مستقرا فى السماء، واكتسبت شكلا انسيابيا كجسد عروسة البحر. ثم تأتى مرحلة ضبط الميزان، وهو المسؤول عن اتّزان الطائرة فى الجو. وهو عبارة عن الخيوط الثلاثة التى تخرج من جسم الطائرة وتُعقد معًا، ويُربط بها بَكَرة الخيط التى ستستخدم فى تطييرها. كانت إحدى متع تلك الفترة الذهاب إلى البحر وفى صحبة كل منا طائرته يحملها تحت إبطه كما كنا نحمل الكتب الدراسية بعد أن تحررنا من حقيبة المدرسة. حجم الطائرة وتعدد ألوانها، كانا يدلان على مكانة ومهارة صاحبها. عشرات الطائرات ترتفع فوق رمال شاطئ استانلى وتتعدى حاجزه الأزرق باتجاه البحر المفتوح. كل منها سادر ومستغرق فى هوائه. الطائرة كائن تأملى بامتياز يبحث عن لحظة اتزان ليغوص ويستغرق فيها. وأيضا كائن عنيد له طرقه الهادئة التى يتغلب بها على مقاومة الهواء. تَرْخِى لها الخيط لتتباعد مع الهواء وتصعد أكثر لأعلى. هدف الطائرة أن ترتفع وتصل إلى مدى لم تصل إليه من قبل. أو بانتهاء بَكَرة الخيط المشدود بينك وبينها. مرة واحدة تسحب الخيط لأسفل كأنك تشكمها أو تزجرها لتنطلق من جديد لتحتل مستوى آخر. أو تسحبها عدة سحبات هينة وقصيرة المدى كأنك تجهزها لحدث جلل، ثم تسحب سَحبَتِك الزاجرة. أو تدور بالخيط ذات اليمين أو الشمال لتغيّر مسارها. كأنك تروّض أسدًا من بعيد بأطراف أناملك. ينثنى الخيط المشدود على شكل قوس يرتاح داخله الهواء. علاقة حساسة مع الهواء. عندما تطيِّر طائرة فأنت لا تلعب معها أو بها، إنما تلعب مع الهواء، هو خصمك، أو شبحك الذى لا تراه، الذى تريد أن تروضه أو تكتشف قانون سلطته. تصبح أنت جزءا من الطائرة. أحيانا تفشل خطوتا الزجر والتمنع اللتان تحاول بهما أن تستعيد السيطرة على وضع الطائرة المتأزم. تتعقد حياة الطائرة وترتفع قليلا ثم تدور حول نفسها عدة شقلبظات، لتسقط فى النهاية. تحجز كل طائرة مربعا فى السماء، لا يشاركها فيه أحد حتى الغروب، عندما تسحب الطائرة عائدا إلى البيت. يتم عودتها إلى الأرض أيضا بهدوء، كأنك تسحب شبَاكًا مليئة بالصيد. يجب أن تشعر الطائرة بأنك حريص عليها. أحيانا كانت تبدأ لعبة أخرى من طرف بعض الأطفال الضالعين فى تطيير الطائرات، عندما يقومون بسرقة طائرات الأطفال الهواة، بأن يُغِيروا عليها فى الهواء، بعد أن يعتلوها، ثم يربطوا حبلها بحبل طائرتهم ويسحبوها صاغرة كغنيمة جريحة. فى فصل الشتاء كنت ترى على أسلاك الكهرباء تلك الغنائم الجريحة من الطائرات، أو بقاياها من هياكل البوص أو الذيول، تصدر نوعا بريئا من الموسيقى. بعدها بسنوات دخلت أشكال جديدة من الطائرات المربعة والمثلثة، ومنها على شكل الخفاش، وجسمها مصنوع من النايلون الخفيف. فى فيلم «عدّاء الطائرة الورقية» المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب الأفغانى المهاجر لأمريكا، خالد الحسينى. وتحكى عن طفولة «أمير» فى كابول وعن علاقته، التى ربطته مع صديقه حسن، بالطائرة الورقية. بعد موت حسن من طرف حكومة طالبان، والذى سيكتشف الكاتب أنه كان أخاه من ناحية الأب، يعود «أمير» بطل الفيلم، أو الكاتب، إلى كابول ليصحب ابن حسن معه إلى سان فرانسيسكو، حيث يعيش. وهناك يأخذه إلى الشاطئ، ويشترى له طائرة ورقية ليطيِّرها. تأخذ الطائرة مسارها المقدر فى السماء، وتسقط بعيدا كما كان يحدث فى شوارع كابول الترابية، حيث كان الأب حسن هو الذى يعدو ليأتى بطائرة أمير. يشرع البطل فى العدو ليأتى بطائرة الابن من مكانها البعيد. لا يكتمل العهد إلا بإعادة نفس الطقوس القديمة. هنا يتم رد الدين للأب الميت. كأن حسن يعود للحياة وسط هذا الفعل الرمزى الطفولى. الطائرة كانت رمزا ومكان لقاء الصديقين أمير وحسن، لاستعادة زمن قديم. روح حسن كانت تحلّق مع الطائرة فى السماء، كأنه ينظر عليهما من أعلى. المكان المرتفع حررها من الارتباط الدنيوى. كتبت مرة قصيدة عن الطائرة الورقية، كنت أحاول أن أجسد فيها فقدى لأمى، قبل وفاتها بسنوات. خوفا أو تقبلا أو استعدادا له. روح أمى سبَقتنى وسبَقتها إلى السماء. كانت هناك طائرة ورقية تحلّق فى سماء خيالى لعدة سنوات.