أول مهمة ينجزها بحماس كل بواب جديد يصل إلى القاهرة من الصعيد، هى تسلُّم حقه فى الشحاتة.. لو كان مسيحيًّا يسأل عن مكان أقرب كنيسة ويسرع إليها بجلابية السفر المقطعة وأولاده الحافيين، لتسجيل بياناته، ومعرفة نوع ومواعيد مستحقاته الشهرية والموسمية.. ولو كان مسلم فهو مش محتاج يسأل فين الجامع لأن الجوامع والزوايا فى كل ميدان وناصية.. وفورا يتم تسجيل البواب الوافد بكشوف «إخوة الرب» فى الكنيسة، وكشوف المحتاجين فى الجامع.. أى طابور المستحقين مساعدة فى الكساء والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية.. لكن أهمّ ما يسعدهم ويلتزمون بشروطه هو تسلُّم «البطانية» الجديدة سنويا. لكن البطانية تحولت من فرحة إلى خناقة مشتعلة، بدأت بحملة تبرعات دعا إليها الإعلامى عمر أديب لتجميع مليون بطانية خلال أسبوع لإرسالها إلى فقراء الصعيد.. فبدأ سباق التبرع بعشرة آلاف بطانية من قطر، تلتها السعودية بخمستاشر ألف، ردت عليهما الإمارات بمبلغ 2 مليون دولار يشتروا ربع المليون بطانية تقريبا.. وأعلنت مؤسسة «مصر الخير» التى يرأسها فضيلة المفتى مشاركتها، وقررت المساهمة ب100 ألف بطانية بتكلفة حوالى خمسة مليون جنيه، فتحمس كل من بنك الكساء وجمعية «الأورمان» للمشاركة.. يعنى تم جمع خمسين مليون جنيه فى أقل من أسبوع.. وهنا ثارت كرامة إخواننا وغلت دماؤهم، كيف نشحت عشان ندفِّى الفقرا؟ وهجموا على الطرفين، الداعين للحملة والمتبرعين.. وقال المهندس عاصم عبد الماجد ساخرا فى مداخلة مع قناة «الحافظ» الإسلامية، التى كانت باعترافه قناة كليبات تتربح 200 مليون جنيه يوميًّا من الرسائل الفاضحة وتابت.. قال «نحن لا نقبل مغازلة الليبراليين لأهل الصعيد».. الصعيد أشرف وأكرم من أن يقبل هذه الرشوة السخيفة.. ولو جاءت هذه البطاطين سيحرقها الشرفاء.. فلتذهب البطاطين إلى الجحيم لأن غرضهم فى ذلك خبيث.. ومركز التآمر على مصر وعلى استقرارها يأتينا للأسف من الإمارات»، ثم دعا إلى مسح قنوات الفلول لأنهم أعداء الدين والأمة! وهنا أتوقف أمام أمرين: أولًا حالة التربص والتصيد وتشويه النيات، التى تتعامل بها القنوات الإسلامية مع الإعلام الرافض لاستغلال الدين فى استعباد البسطاء والأميين، فالجحيم لمن يخالفهم والجنة لمن يطيع أوامرهم.. لماذا اعتبروها رشوة؟ ما أدراهم بالرشوة وهم أنقياء القلب والفكر والعمل؟ لماذا لم يحتسبوها عمل رحمة من مواطنين مصريين أو حتى إخوة فى الإسلام؟ ولماذا يرفضون أموال وبطاطين الإمارات والسعودية وقطر إذا جاءت عن غير طريقهم؟ وهل يهددون بإحراقها لتوزيع بطاطينهم هم قبل انتخابات مجلس الشعب مثلا؟ الأمر الثانى -وهو الأهم من هذه المهاترات- هو أننى كنت أفضِّل توزيع هذه الملايين العزيزة على إقامة مشروعات تنموية أو خدمية للصعيد.. ولنبدأ بمصانع بطاطين، تمنح كل عامل فيها الحق فى بطانية هدية سنويا إذا أجاد وأبدع.. لأن توزيع البطاطين على الصعايدة والفقراء ليس عمل رحمة إنما الرحمة هى توفير فرص عمل، ومستشفى وطبيب، ومدرسة ومعلِّم.. لكن بطاطين المعونات أغلبها يُباع بنصف ثمنه لشراء وجبة طعام.. وتضيع الملايين على البطون الجائعة والأبدان المجفَّفة والعقول المغيَّبة.. البطانية لن تدفئ الفقراء سواء كانت علمانية أو حسب الشريعة. لذلك أطلب من فضيلة المفتى المبادرة بإقامة أول مصنع بطاطين بالملايين الخمسة التى تبرعت بها مؤسسة الخير.. فليطالب الحكومة بمنحه أرضًا مجانية، ومرافق مجانية، ومواصلات مجانية.. وليدْعُ المرأة فى الصعيد للعمل فى هذا المصنع.. ليكون المصنع هو مكان محو الأمية والتعليم والتدريب النفسى على مشقة الحياة ومواجهتها.. فالمرأة المعيلة هى من ينفق على الأسرة بعملها خادمة فى البيوت، وعاملة فى المصانع وفى الأرض الزراعية.. وهى ضحية النفاق الاجتماعى الذى يرفض الاعتراف بدورها الأساسى فى الإنفاق على الأسرة.. وانظروا عدد الرجال العاطلين الذين يملؤون القهاوى، ويتلقون التعليمات من الجوامع بضرورة نقاب المرأة لأنها عورة.. المرأة التى يريد الدستور المرفوض إباحة زواج طفلتها فى التاسعة من عمرها، لتتحول النساء والأطفال إلى جَوارٍ للمتعة لمن يملك ثمنها.. أو بفلوسها لزوجها العاطل.. وبدأت أشكّ أن من يعترضون على مبادرة إعلام العلمانيين لجمع البطاطين، إنما يتبعون شعار «نام يا فقير واحنا نغطيك.. عشان لما نحتاجك فى مسيرة تأييد، أوخناقة كفار، أو استفتاء أو انتخابات تتكسف وماتتأخرش»! الحقيقة المؤلمة.. أن فقراء الصعيد هم الخاسر الوحيد فى هذه المعركة الإعلامية.. ولكنهم لن يظلوا قطعانا لمراعى أسيادهم الذين يطعمونهم أو يرهبونهم بعذاب القبر.. فالشعب كله تَغيَّر بعد الثورة المسروقة التى لوَّحت لهم بالأمل فى حياة إنسانية.. فهموا معنى الحياة بكرامة.. فهموا أن لهم حقوقًا على الدولة، وأنهم ثروتها وليسوا عارها ومشكلتها.. الدولة مسؤولة عن توفير البطانية والوجبة والسكن والعمل.. لا عن تكفير المعارضين أو المنشقِّين عن القطيع.. الصلاة هى حب الوطن.. وسنصلِّى جميعا معًا لنستعيد الوطن.