أدافع عن نمط حياتى العادى، لا النمط الذى يثير حفيظة وحنق الآخرين. لقد شعرت بالإهانة المباشرة بهذا العرض التكفيرى أمام جامعة القاهرة. أغلب من فيه كانوا يهاجمون نمط حياتنا العادى، وضميرنا الجمعى، لا الأفكار فقط. ليس صراعًا حول الدين، لكن حول نمط الحياة، وهو الصراع الأعمق الذى لا يوجد به منتصر، والذى لا يمكن أن تحسم نتائجه إلا بعد أجيال وأجيال. هل للدين نمط حياة واحد يمكن أن يتحقق فيه أو يعبِّر عنه؟ إننا الآن ندافع عن حياتنا الشخصية، عن أسرارنا العائلية، عن بيت الذكريات الذى عشنا فيه، عن شرائط موسيقانا، عن سنوات مراهقتنا، عن أفلامنا التى أحببناها واحتفظنا بها وبمشاهدها فى ركن واسع ومشمس فى الذاكرة. أدافع عن نجيب الريحانى، ويوسف وهبى، وعبد الوارث عسر، وزينات صدقى، وعبد الحليم حافظ، وكمال الشيخ، وصلاح أبو سيف، وعمر الشريف، ومحمد خان، وداوود عبد السيد، وعاطف الطيب، وفطين عبد الوهاب، وليلى مراد، وهنرى بركات وغيرهم وغيرهم وغيرهم الكثير. أدافع عن أبطال حياتنا العادية فى حكايات أمى، ست الحسن والجمال وعلى الزيبق والشاطر حسن. أدافع عن «سِكِّة السلامة» و«سِكِّة الندامة» و«سِكِّة اللى يروح ما يرجعش». أدافع عن أبى الذى مات وفى مكتبته عشرات المسرحيات باللغة الإنجليزية لوليم شكسبير، وغيره، والتى كان يود ولو يقوم بتمثيلها. أبى الذى كان يحب التمثيل، وفى الوقت نفسه يقدس الأخلاق والصدق وحب العمل واحترام الغير. عندما كان يفرد سجادة الصلاة ويضع قدمه عليها بثقة كأنه يضع قدمه على أولى عتبات الجنة. وكان يبكى أمام الأفلام، فى لحظاتها المؤثرة، ولا يحب لأحد أن يرى دموعه. لقد ورثت عنه هذه الصفة. أدافع عن أمى التى ماتت وهى تخشى أن تكون قد أغضبت الله دون سبب، ومن كثرة حبها وإخلاصها له كانت تخشى أن لا يكون الله يحبها كما تحبه. أدافع عن الأخطاء وليست الذنوب. أدافع عن من يستمع إلى نفسه ويتحاور معها، لكنه لا يتجسس عليها، ولا يصبح عميلا مزدوجا يعمل ضدها. أدافع عن زوجتى التى تحب وتمارس الفن، وتحب الموسيقى بكل أنواعها، وتحب كل الأشياء المصنوعة يدويا. الأشياء التى تقف وراءها موهبة فطرية تبث الروح والدفء والفرادة فيها. أدافع عن هذه الروح الخاصة المتفردة والمتميزة بفطرتها الربانية وبثقافتها الملهِمة. أدافع عن ذاكرة شعب، مهما كانت حجم فراغاتها وهشاشتها، إلا أنها صندوق ذكرياتنا الشعبى، إنها النور الذى نسير فيه وليست الظلمات التى نخرج منها. أدافع عن مسلسل السابعة مساءً، حيث تجتمع العائلة. أدافع عن شاى الخامسة القديم، عن قهوة الصباح مع البرنامج الموسيقى. أدافع عن البنطلون الشارلستون الذى كنت أرتديه أيام موضة الهيبيز فى السبعينيات. أدافع عن الشعر الطويل والشعر القصير وكل الموضات القلقة والزائلة. أدافع عن الأشياء الزائلة، لأنها جزء لا يتجزأ من الحياة والتاريخ. أدافع عن نزواتى التى أحبها، والتى اجتهدت فى أن لا أخفيها. ليس جهرًا بالسوء، لكنها مثل أى نزوات تأتى وتذهب ولا تترك أثرا على الرمال. أحببت أن أقرِّب المسافة بين الداخل والخارج. أدافع عن أصدقائى الذين أثق فى رجاحة عقلهم، وفى اختيارهم الطريق الأصعب لحياتهم، والسير الأصعب، والصداقات الأصعب، وليس الطريق الأسهل الملىء بالتواطؤات. أدافع عن من تتقلب وجوههم فى السماء بحثا عن ميناء، مع من لا يريدون أن يحسموا معركتهم مع الشك ومع العقل ومع الحوار، مبكرا، حتى لا يحصلوا على ميناء آمن لا يقوى أمام أى موجة قادمة. أدافع عن سنواتى القادمة التى تخيلتها، بعد الثورة، أنها ستكون أخصب السنوات، لأنها سنوات حرة، سنوات سنأكلها بعرق جبيننا، وليست سنوات مسروقة من حساب الزمن. سنوات دفعنا جميعا ثمنها مقدمًا، وخرجنا جمعيا لنستطلع هلالها. لم أتخيل أبدا فى أى لحظة من حياتى أننى أريد الحرية الشخصية لأعيش على «كيف كيفى»، وأيضا لم أتخيل أننى سأعيش على «كيف» أحد آخر. هناك «كيف إنسانى مشترك» صنعته الثورة، ويمكننا أن نتفق عليه. أدافع عن مهنتى كشاعر تؤرقنى دائما فكرة الأخلاق وكيف تكون حميمية وجزءًا من تيار الوعى، وليست سلطة مسلطة على الرقاب. أدافع عن الخيال الذى لن يتحقق إلا بمساحات موازية من الحرية، ومن الإيمان بالغير، ومن الجرأة على النظر إلى كل أمور حياتنا بأكثر من وجه وطريقة. الله، فى ما أعتقد، مع التنوع. بالتأكيد لا أطمح ولا أفكر، فى أن أغير من معتقد شعب، لكنى أريده أن يتسع للاختلاف، أن يفرح الشعب بأن يرى صورته فى عدة مرايا، منها الدين، ومنها الموسيقى، ومنها الفن، باختلاف النسب والأهمية. أن يرسم الشعب صورة متخيلة له عن نفسه، تعيش معه، وتوسِّع وترفع من سقف حياته اليومية العادية. أن تتعدد صوره بتعدد أشكال الحب والمثالية التى تدور من حوله. أدافع عن كل من يوسِّع هذه الثقافة التى أعيش بين جنباتها، يعمِّقها، وينزع عنها تواطؤتها، لكن لا يقطع معها. إنها كالميراث العائلى، مهما كان مؤلمًا فهو يحمل سمت الشخصية، وسرها، والأهم أن نقلل من ألم هذا الميراث. إنه ميراث يجرى فى دمنا، ومن الصعب تغييره إلا بتغيير الدم كله، دم الثقافة، دم الماضى. هل يمكن لأحد أن يغير دم الماضى؟ أدافع عن نمط حياتنا العادى، لأنه النمط الذى جعلنى أتقبل الآخرين.