وحين تسافر من مكةالمكرمة إلى المدينةالمنورة، وتتأمل فى الطبيعة الجبلية والصحراوية طوال هذه المسافة التى تزيد على أربعمئة كيلومتر، قد تتساءل: كيف قطعها المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، برفقة الصديق الأكبر؟ وكيف كانوا قديما يعبرون هذه الجبال العالية أو يدورون من حولها؟ وكيف كان حال النبى الأكرم وهو يدعو الله أن يحببهم فى المدينة كما حببهم فى مكة؟ وقد كان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، ومن ثم ترى فى أهل المدينة حتى الآن صفاء ونقاء وسماحة تذكرنا بجهاد الأنصار الأوائل وتضحياتهم العظيمة فى سبيل الله ورسوله. وإذ استمرت آيات سورة «سبأ» تتوالى على أذنى وقلبى، فتأمل فى قوله تعالى: «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِى الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِين (14)». أنظر فى حقيقة معنى «الشكر» الواجب لله، إن الشكر فعل للخيرات، وعمل الصالحات، وقليل من عبادى الشكور، وهذا النبى الكريم، عليه السلام، والذى نال مكانة عليا بالنبوة والملك وتسخير الرياح والنحاس والجن وغيرها له، مما لم ولن يناله أحد غيره من بنى البشر. هذا النبى الجليل، والملك العظيم تُسقطه على الأرض نملة صغيرة، أو دودة ضئيلة حين تأكل منسأته! فما بالك بحالك أنت أيها المسكين؟! ثم أنظر فى قوله تعالى: «لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِى إِلاَّ الْكَفُورَ (17)». وهذا حال بعض الناس الذين ينعم الله عليهم بنعمه التى تعد ولا تحصى، ولكنهم بدلا من شكر المولى -عز وجل- على ما رزقهم من النعم والطيبات، إذا بهم يصابون بعمى البصيرة، ويُعرضون عن الحمد والشكر، لمن أنعم عليهم بمختلف أنواع الخيرات! وتذوق هذه الكلمات المبهرة: كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور. فأى شىء يمكن أن يطلبه إنسان سوى أكثر من رزق إلهى ميسر له فى بلدة طيبة وبين يدى رب غفور؟! حقا قُتل الإنسان ما أكفره! والمقصود هنا غير المؤمن، ومن ثم فختام الآية يؤكد لنا منهج الحق فى تعامله مع عبيده، إذ يقول لنا فى صيغة سؤال: وهل نجازى إلا الكفور؟ سبحان الله العظيم (يتبع