فور تقديمى استقالتى من عملى اشتريت هارمونيكا. صادفت البائع على رصيف البحر، فلم أتردد فى شرائها كترددى فى شراء غيرها من الأشياء غير المعتادة بالنسبة إلىّ، والتى كانت تحتاج إلى وقت كى أعتادها وأدخلها فى مجالى النفسى والمادى. مع الهارمونيكا لم يحدث هذا. كأن هذه الآلة خُلقت لى فى تلك اللحظة الصعبة من حياتى. عدة تحولات ومنحنيات حياتية حادة تحتاج إلى موسيقى مصاحبة لها حتى تخفف من دراميتها. كانت تصفر فيها الريح بدلا منى. بطل فيلم «أهلا.. الوداع» الذى شاهدته عدة مرات فى بداية السبعينيات، وعرض باسم تجارى هو «لحظات حب»، هذا البطل كان يعلق هارمونيكا فى عربته الأوستن المكشوفة، فتصفر لحنه المفضل بقوة الريح التى تؤجهها العربة المسرعة. كنت أدور بها فى كل مكان: الترام، الأوتوبيس، على شاطئ البحر، فى الأماكن المزدحمة، الأماكن المعزولة، لأعزف لحنى الخاص. اللحن العشوائى ذو النغمة الواحدة الذى لا يحس به سواى. لأول مرة فى حياتى أمتلك آلة موسيقية. مرت الطفولة دون موسيقى. كنت أشترى تلك الربابة من البائع الذى كان يمر فى شارعنا ويغنى عليها أغنيته الحزينة. لم يكن لأغنيتى هذا الحزن القدرى للربابة. كان لها حزنها الخاص، حزن دون قدر أعمى يقف أمامه أو يقمعه أو يجعله ليس مسؤولا. كان حزن أغنيتى سائبا يبحث عن ريح تحمله إلى آفاق بعيدة ورحبة. أيام من العزف وتختفى الربابة ضمن حاجيات البيت التى تختفى. فى المدرسة الإعدادية اختارنى مدرس الموسيقى لأقف فى الكورس فى الصف الأخير وأنا أرتدى بابيونا سوداء. فى المدرسة الابتدائية دخلنا غرفة الموسيقى البعيدة عن فصولنا بمسافة تسمح بسكنى الأشباح والفئران لها. تعلمنا فيها الموسيقى دون استخدام آلة موسيقية. أفواهنا تردد مع إيقاع المعلمة وأصابعها: «تفاتِفى تَتى تَتى تا». نكرر هذه الجملة الموسيقية عدة مرات، ونعلم بأصباعنا على أفخاذنا لنلتقط مادية هذا الإيقاع على جلودنا، حسب عدد الأصابع المضمومة أو المفتوحة، وحماسها فى التكرار. أقصى احتمال موسيقى مرت به الطفولة. لم يكن أحد من حولنا له هواية موسيقية، سوى ابن خالتى. أجبره والده على أن يتعلم العزف على الكمان، وأتى له بمدرس. كانت أصوات دروس الكمان تخرج من شباك الصالون فى شقة خالتى فى الطابق الثالث لبيتنا العائلى، بينما أنا فى الحديقة أستمع إلى صوت نقيق الضفادع، وأطاردها هى والسحالى. وفى النهاية أقوم بتشريحها فى أحد الدروس الأساسية للطفولة، أن يهبك كائن من كان نفسه لترى ما بداخله. اشتريت هارمونيكا على اعتقاد أن بداخلى بركانًا من الهواء الساخن، تماما مثل قوة الريح لبطل فيلم «لحظات حب»، سيذيب أى جملة موسيقية عنيدة ويطوعها لأصدر لحنى الخاص. عند عودة البطل فى عربته المكشوفة، وبعد كل انتصار نفسى له، عادة يحدث بعد علاقته الجسدية مع حبيبته الأرستقراطية، كان يترك الهارمونيكا لتجسد وتنوب عن صوت فرح قلبه. كان عزفى على الهارمونيكا لا يصدر هذا الصوت لأى أفراح داخلية، فلم تكن هناك انتصارات أو إشباع حققته بعد لنفسى فى ذلك الوقت، سوى انتصارى على نفسى وتقديمى استقالتى من عمل لم يكن لى ولم أكن له. كان عزفى خاليا من فرح التحقق وله نغمة واحدة. كان به فرح من نوع آخر، بأنى أصبحت على أولى عتبات عالم حر. كان صوت الهارمونيكا هو موسيقى الافتتاح لهذا العالم الجديد. الصفير ومرجحة الذراعين فى الشارع، بسطهما كأنك طائر، وقبضهما كأنك تحضن الحياة نفسها. أول دروس الموسيقى التى تعلمناها من أعضائنا، من كورس هذه النفس المنسجمة. قابلت مرة شاعرًا إسبانيًّا من برشلونة. لم يحدث أى تواصل باللغة بيننا. كنت أشعر بتعاطف وود شديدين يحاول أن ينقلهما إلىّ فى أى حديث أو أمسية أو مائدة تجمعنا. إلا فى اليوم الأخير بعد أن ودعنا بعضنا، رأيته يسير بمفرده وهو يمرجح ذراعيه على الشاطئ، وفى حالة انسجام تام مع كل ما يحيط به. كانت هذه هى الرسالة التى نقلها إلىّ عن نفسه. ومضة كشفت شيئا عميقا داخل هذه الروح، أجدى من كل الحوارات المختصرة التى تمت بيننا. أسعدنى مرجحته لذراعيه، وانتشاءه بنفسه. تلك كانت أغنيته الخاصة التى لن يعزفها إلا فى لحظات انسجامه مع نفسه، ومع الحياة من حوله. مهما كانت الموسيقى حزينة فهى تعبر عن علاقة مركبة وأعمق بالحياة. كنت أبحث عن طريق الهارمونيكا عمن يشاركنى وحدتى الجديدة. بانسلاخك من جلدك الاجتماعى القديم تفاجئك تلك الوحدة الثرية، وهى المكان الخصب لالتقاط مطالع الأغنية الخاصة. كل حركة من حركاتك، حتى الخطأ منها، هى جزء من سلم موسيقى ستصعده بمفردك، أو بصحبة آخرين، حتى تكتمل هذه الأغنية. بعد عدة شهور بدأت أمل من وجود الهارمونيكا فى جيبى. لم تكن هى الآلة التى تسمح بصداقة طويلة، فقدت جاذبيتها بسبب نغمتها الأحادية المكررة، أو أنها قد أدت وظيفتها على أكمل وجه، فى أن تحمل هذا الهواء الساخن والمكبوت فى صدرى وتحوله إلى موسيقى تغلف المجال النفسى والمادى الذى أدور فيه. فى إحدى مسيراتى اليومية على البحر، وجدت طفلا ينظر إلىّ وأنا أعزف عليها، فخلعتها من فمى وأعطيتها له دون أى كلمة. فى تلك الفترة كنت مستعدًا أن أمنح أى شىء من روحى لأول عابر سبيل أقابله فى الطريق العام.