أتصور ونحن نعيش أجواء هذا الشهر الفضيل، منحة الله السنوية لخلقه، الشهر الذى من المفترض أن تصفو فيه النفوس وتعالج أدوائها استناده إلى نفحاته، التى تصادف أشواق قلوب المؤمنين المتلهفين إلى أبواب رحمة العزيز الحكيم. قد لا نجد أفضل من نفحات الروح التى تنساب عبر كلمات موجزة عميقة سطرها الإمام ابن عطاء الله السكندرى، الإمام الملقب بتاج الدين أحمد بن محمد بن عبد الكريم ابن عطاء الله السكندرى المالكى، المتوفى عام 709 ه، فهو من أعيان القرن السابع الهجرى درس التفسير والحديث واللغة والأدب على شيوخ له فى مصر، ثم توج حياته العلمية بالسلوك التربوى والسعى إلى تزكية النفس على يد عالمين جليلين جمع كل منهما بين ضوابط العلوم الشرعية وأصول تزكية النفس من أدرانها، وهو ما سماه الله تبارك وتعالى باطن الإثم فقال «وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون» 120 سورة الأنعام، فجمع بين الحال والمقال، أما أحدهما فهو الشيخ أبو العباس المرسى أحمد بن عمر، الذى اشتهر إلى جانب غزارة العلم بالصلاح والتقوى، أما الآخر فهو الشيخ أبوالحسن الشاذلى على بن عبد الله، وهو المرجع الأول فى الطريقة الشاذلية وقد توفى الأول منهما عام 686 ه، أما الثانى فقد توفى عام 656 ه. لمع اسم ابن عطاء الله عالما من أجل علماء الشريعة، وكتابه هذا الحكم العطائية هو مجموعة مقاطع من الكلام البليغ الموجز، الجامع لأوسع المعانى بأقل المبانى والعبارات، وكلها مستخلصة من كتاب الله العزيز أو من سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد قسمه رحمه الله إلى ثلاثة أقسام. الأول يدور حول التوحيد وحماية عقيدة المسلم من أن يتسرب إليها شىء من المعانى الخفية الكثيرة للشرك الثانى يدور حول محور الأخلاق وإلى تزكية النفس، أما القسم الثالث فيدور على محور السلوك وأحكامه المختلفة. الكتاب رحلة روحية لمؤلفه ونتاج إحاطة راسخة بعلوم الشريعة، وقلب حى متصل بالله أدرك حقائق الكون وتعلق بخالقه وحلق فى سماوات العشق الإلهى والتأمل، الذى أنتج تلك الحكم التى هى ترجمة أمينة لما لخص بعذوبة الشيخ محمد الغزالى، متحدثًا عن حقيقة هذا الدين وكيف لا يدركه إلا صاحب عقل نير وقلب حى، وما أكده الإمام محمد عبده متحدثا عن هدايات أربع فى حياة المسلم، تكتب له طريق النجاة، حيث جعل العقل أولى الهدايات، حاكمًا على الهداية الثانية وهى النقل الصحيح قرآنا وسنة، ثم الهداية الثالثة التجربة البشرية المفتوحة، وما أنجزته تراثا مشتركا للإنسانية يعينها على التقدم والرقى فى الفنون والعلوم والآداب، ثم كانت الهداية الرابعة التى خصها بالذكر هى الوجدان وترقيته عبر منهاج التربية والسلوك، أو ما اصطلح البعض على تسميته بالتصوف الصحيح البعيد عن البدع أو الشركيات الذى ظهر فى عصور الضعف، حتى وسم علم السلوك بهذا الغبش الذى يحاول العالم الجليل الشهيد بإذن الله محمد سعيد رمضان البوطى العالم الدمشقى، الذى لقى ربه فى حادثة أليمة من الأحداث التى تعيشها سوريا منذ أربعة أعوام فى أحد مساجد دمشق رحمه الله رحمة واسعة، جزاء ما قدم لدينه وأمته وهو الذى أزال ركام النسيان عن تلك الحكم، وقدمها للقارئ العربى فى شرح بليغ، بعد كانت دروسا يلقيها فى أحد مساجد دمشق جمعت قلوب المحبين والتقت عليها نفوسهم، حتى حبب البعض للإمام الجليل جمع تلك الشروح فى كتاب قدمه صاحبه بمقدمة عذبة كعذوبة الراحل الكريم يقول فيها «إلى كل تائه عن الله لم تجذبه عصبية لذات ومذهب، وإلى كل جاحد بالحق لم يحجبه عنه استكبار أو عناد، أقدم هذا الكتاب الجامع بين موازين العقل ونفحات الروح، عسى أن يجدوا فيه من شعاع النور والهداية ما لايجدونه فى المجادلات المنطقية والصراعات الفلسفية» تأملوا حديثه عن جفاف المجادلات المنطقية والصراعات الفلسفية التى شغلت الناس عن إدراك الحقائق وإحياء القلوب، قال هذا الكلام قبل أن يرتفع غبار كل المعارك المادية واللفظية والمعنوية، التى أرهقت العقل وأدمت القلب نحاول عبر تلك الحكم الرائقة أن نربت على تلك القلوب ونحاول إيقاظها من رقدتها التى طالت، عسى أن تصنع وعيا مختلفا لأمتنا بحقيقة وجودها وأدوارها التى ذهلت عنها، وهذا حديثنا مع المقال القادم فى شرح الحكمة الأولى المختارة من بين عيون الحكم العطائية فى صحبة تدوم بحول الله وقوته طوال الشهر الفضيل.