يمثل صعود قوى إقليمية تستهدف تحدى التدخل الأمريكى فى شؤون المناطق والأقاليم التى تعد نطاقات نفوذ وأمن تقليدية لهذه القوى أحد التحديات الكبرى التى تواجه القيادة الأمريكية الأحادية للنظام الدولى. وبدأ بروز نزعة تحدى قوى إقليمية للهيمنة الامريكية فى وقت مبكر يسبق حتى الانفراد الأمريكى بقيادة النظام الدولى فى مطلع تسعينيات القرن العشرين، إلا أن دور هذه القوى تعزز كثيرا فى ظل نهج «خفض الانخراط» فى شؤون بعض الأقاليم الملتهبة الذى تتبناه الإدارة الأمريكية الحالية. وفقا لهذا النهج تحاول الإدارة الأمريكية من جهة تفادى التكاليف المرتفعة لتدخلها المباشر من أجل فرض نهايات محددة للصراعات الإقليمية، خاصة وأن أغلب تلك التدخلات انتهى بفشل ذريع سواء فى إنهاء الصراعات أو حتى خفض حدتها كما يبدو فى أفغانستان والعراق، فضلا عن أن التدخل الأمريكى المباشر زاد من احتمالات المخاطر الإرهابية التى تتعرض لها المصالح الأمريكية حول العالم. وفى المقابل، يبدو أن إدارة أوباما تحاول من جهة أخرى استغلال تفجر الصراعات فى بعض الأقاليم لإنهاك بعض تلك القوى الصاعدة واحتوائها، مثلما يبدو بجلاء فى منطقتى الشرق الأوسط والفضاء الأوراسى المحيط بالدب الروسى، ومثلما يتوقع فى حالة الصين التى قد يشهد فضاءها الإقليمى، بل وداخلها ذاته محاولات لإثارة نزاعات حدودية أو اضطرابات إثنية محدودة النطاق تتيح للولايات المتحدة قدرة للضغط على النظام الصينى ومساومته. يعكس هذا التوجه الاستراتيجى لإدارة أوباما الاعتراف الامريكى بأزمة قيادتها العالمية جراء عم امتلاكها القدر الكاف من موارد القوة اللازمة لفرض سيطرتها وضبطها الكاملين لتفاعلات النظام الدولى وأزماته الآخذة فى التصاعد حدة والاتساع نطاقا. وبالمثل يعكس هذا التوجه فى الوقت ذاته نزعة أمريكية ترفض تأسيس نظام تشاركى عادل ومتوازن يمنح تلك القوى الصاعدة دورا إيجابيا فى إدارة النظام الدولى وقيادته بشكل جماعى. يحمل التوجه الأمريكى الراهن مخاطر لا تتهدد القيادة الأمريكية فقط، ولكن تهدد مستقبل العالم وقدرته على احتواء التحديات التى قد تمس وجوده وليس مجرد استقراره، ومن أبرز تلك المخاطر: 1- أن محاولة فرض نمط من الصراعات الإقليمية الممتدة، ومفاقمة معاملات الإنهاك المرتبطة بها قد يحفز بعض القوى الإقليمية إلى تطوير مداخل جماعية تحيد التأثير الأمريكى السلبى لإدارة شؤون مناطقها وأقاليمها. بعض من ذلك التوجه يبدو أنه آخذ فى التطور فى الفضاء الأوروبي-الروسى من خلال محاولات ألمانية-فرنسية للبحث عن سبيل مختلف لإدارة العلاقة مع الدب الروسى. أما فى المناطق الأقل رُشدا سياسيا، وأبرزها حاليا الشرق الأوسط، فإن المرجح، أن تدفع حدة التنافس بين القوى الإقليمية بعض هذه القوى إما إلى محاولة توريط الولاياتالمتحدة فى صراعاتها كأحد ضمانات تفادى هيمنة طرف إقليمى بعينه، أو إلى البحث عن أطر أمنية بديلة تمنح قوى دولية كبرى أخرى مزايا تحفزها على محاولة موازنة أى اختلال فى توازنات القوى الإقليمية قد ينتج عن تراجع الحضور الأمريكى. 2- أن محاولة الإعاقة الأمريكية لتأسيس نظام تشاركى لإدارة النظام الدولى، ومنح القوى الصاعدة أدورا تكافىء وزن قوتها المتنامية اقتصاديا أو معرفيا أو حتى عسكريا، قد يدفع هذه القوى لمحاولة تأسيس أطر بديلة لإدارة بعض التفاعلات الدولية بعيدا عن قواعد النظام الدولى القائم. ويبدو ذلك واضحا فى محاولات الصين وروسيا وإيران تأسيس أنظمة مالية دولية بديلة لا تبقى رهنا لهيمنة الدولار أو النظام المصرفى العالمى. 3- أن محاولات الإنهاك الأمريكى لبعض القوى الصاعدة فى نطاقاتها الإقليمية سيدفع تلك القوى لتحدى القيادة الامريكية فيما يتعلق بالقضايا والأزمات عالمية الطابع، مثل قضايا المناخ أو الندرة المتزايدة للموارد أو حتى مواجهة تصاعد الاطرف والإرهاب. بعبارة أخرى، فإن التحديات التى تمس العالم بأسره ستضحى فضاءا محتملا التنافس بأكثر مما ستكون داعيا للتعاون. 4- أن التهديدات والمخاطر الناجمة عن الصراعات الإقليمية الممتدة لم يعد ممكنا احتوائها فى نطاقاتها الإقليمية، خاصة تلك الصراعات ذات الطبيعة الإثنية والطائفية والتى لا يمكن حصر موجات الكراهية والتطرف والإرهاب التى تولدها فى حدود أو نطاقات جغرافية محددة. استنادا إلى الطرح السابق، يبدو أن العالم بات يواجه ثلاثة سيناريوهات رئيسية: أولا: بروز نهج أمريكى تشاركى يستهدف تأسيس نمط للحكم العالمى يضمن حدا أدنى من العدالة والتوافق فى إدارة شؤون نظام عالمى بات خارجا عن السيطرة بدرجة كبيرة. لكن لا لا يلوح فى الأفق أى مؤشر واقعى على إمكانية تحقق هذا السيناريو الذى قد يهدد نفوذ مراكز القوة المهيمنة على صنع السياسة الأمريكية. ثانيا: بروز تحالفات جديدة بين عدد من القوى المراجعة، لا تستهدف مجرد تحدى السياسات الأمريكية فى مناطقها، ولكن محاولة إرساء قواعد جديدة للنظام العالمى تتحدى القواعد الأمريكية، خاصة الاقتصادية منها، وما يتعلق بقواعد التدخل الدولى. مثل هذا السيناريو، رغم بروز مؤشراته الجنينية، فإنه لا يتوقع اكتمال أى من تجلياته فى المدى القريب أو المتوسط. ثالثا: استمرار حالة السيولة الدولية الراهنة لفترة ممتدة، فى ظل عجز القيادة الأمريكى الواضح، وغياب الأسس التى تتيح تحقق أى من السيناريوهين السابقين فى أمد قريب. ويلزم هنا الإشارة إلى أنه حتى تحول الولاياتالمتحدة عن نهجها الانسحابى فى أى أمد قريب، بحسب ما يطالب به الجمهوريون، بل وقطاعات واسعة بين الديمقراطيين، لن يضمن بأى حال استعادة قدرة الضبط والسيطرة على التفاعلات الدولية، بقدر ما سيمثل مزيدا من الإنهاك للقوة الأمريكية وتآكلها.