كتب- أحمد شمس الدين: استقبلت البورصة المصرية قرار الحكومة بتأجيل تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية لمدة سنتين بارتفاعات قوية، لتعكس الاتجاه السلبى لأسعار الأسهم وقيم وأحجام التداول منذ بداية العام، إذ جاء أداء البورصة المصرية فى ذيل قائمة البورصات الإقليمية، بعد أن كانت فى المقدِّمة على مدار العام الماضى، فهل يمثِّل تأجيل هذه الضريبة نقطة انطلاق جديدة للسوق؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلَّب تحليلا موضوعيا للأسباب الحقيقية وراء أزمة سوق المال الأخيرة، حتى لا يصاب المستثمرون، خصوصا صغار المستثمرين، بالإحباط مجددا، بعد أن أعطت الارتفاعات الأخيرة الأمل لتجاوز الخسائر السابقة والعودة إلى تحقيق الأرباح. الحقيقة أن ضريبة الأرباح الرأسمالية رغم الجدل الذى صاحبها وعدم وضوح آلية تنفيذها، فضلا عن تأثيرها السلبى على عوائد الاستثمار فى السوق ولو مؤقتا، فإنها -فى رأيى- لم تكن السبب الرئيسى وراء ضعف أداء البورصة منذ بداية العام كما يحلوا للبعض أن يُبرِّر. وأودّ أن أُذكِّر الجميع أن تاريخ الإعلان عن هذه الضريبة يعود إلى شهر يوليو من العام الماضى، ورغم هذا فقد تبعه أداء قوى على مدار النصف الثانى من عام 2014، حيث تفوَّقت البورصة المصرية على عديد من الأسواق الناشئة والإقليمية، ومنها سوق دبى وأبو ظبى والسعودية، وسط مشاركة قوية من الأجانب فى السوق المصرية، فماذا حدث إذن؟ فى العام الماضى، توارى التأثير السلبى للضريبة خلف مناخ التفاؤل بتحسن المؤشرات الاقتصادية وزيادة فرص النمو، خصوصا بعد الانتخابات الرئاسية، وزاد من أسباب التفاؤل قيام الحكومة باتخاذ القرار الشجاع بخفض دعم الطاقة، وهو القرار الذى هربت منه الحكومات السابقة خوفا من الغضب الشعبى، واستهداف خفض عجز الموازنة إلى 10% (مقارنة ب12% فى 2013)، وما تبعه من الإعلان عن إقامة الموتمر الاقتصادى فى شرم الشيخ، مما أعطى انطباعا عاما بوجود خطة محكمة للإصلاح الاقتصادى بعد أربع سنوات من التخبط. ومع مرور الوقت بدأ التفاؤل يقلّ تدريجيا، إذ بدا للجميع أن الوضع الاقتصادى لا يزال متأرجحا بين متطلبات النمو والتشغيل، وما يلزمه من إصلاح مالى ونقدى من جهة، وبين تحديات الجبهة الداخلية وما يلزمها من تجنب القرارات غير الشعبية من جهة أخرى. ورغم اتجاه الدولة مؤخرا نحو المشروعات العملاقة بهدف جذب الاستثمارات فى القطاعات كثيفة العمالة، مثل البنية الأساسية والإسكان والخدمات اللوجيستية بهدف خلق فرص عمل ودفع عجلة النمو الاقتصادى، فإنه لا يبدو هذا كافيا لتحقيق تنمية مستدامة فى ظل غياب آليات واضحة لتحقيق التراكم الرأسمالى، من رفع معدل الادّخار المحلى وزيادة نسبة الاستثمار الأجنبى، بعيدا عن المنح والمساعدات الخارجية، خصوصا مع وجود سياسة نقدية متحفّظة، بل وتبدو أحيانا متعارضة مع السياسات الأخرى التى تهدف إلى النمو وزيادة معدل الاستثمار، فلا يزال الاقتصاد المصرى غير قادر على توليد احتياجاته من النقد الأجنبى، حتى مع انخفاض أسعار البترول وما تبعه من انخفاض فاتورة استيراد الطاقة، بسبب إصرار واضعى السياسة النقدية على استخدام كل الموارد المتاحة للدفاع عن سعر صرف الجنيه، مما أسفر عن ارتفاع قيمته مقابل العملات الرئيسية، ومن ثم انخفاض تنافسية السلع والخدمات المصرية فى الخارج، مما زاد من الضغط على الميزان التجارى. فالقول بأن سعر صرف الجنيه المصرى قد انخفض مؤخرا ليس دقيقا، فرغم انخفاض الجنيه أمام الدولار فإنه ارتفع أمام اليورو (الشريك التجارى الرئيسى لمصر) وأمام عديد من العملات الرئيسية الأخرى، مما أسهم فى انخفاض الصادرات المصرية بأكثر من 20% عن العام الماضى، بجانب انخفاض صادرات مصر من الأسمدة والمواد الأساسية، بسبب قلة الإنتاج وعدم توافر الطاقة اللازمة لتشغيل المصانع. ومن المتوقَّع أن يؤثِّر الارتفاع المصطنع فى قيمة الجنيه المصرى أمام اليورو والروبل الروسى (الذى يعانى انخفاض أسعار البترول) سلبا على نمو إيرادات السياحة. ومن المتوقَّع أن يستمر الدولار فى الارتفاع مقابل اليورو وباقى العملات الرئيسية فى المستقبل القريب، إذ تبدأ الولاياتالمتحدة فى رفع أسعار الفائدة تدريجيا مع تحسن مؤشرات التعافى الاقتصادى، فى الوقت الذى يقوم فيه الاتحاد الأوروبى واليابان والصين ببرامج التيسير الكمى التى تهدف إلى تخفيض أسعار الفائدة، ومن ثمّ الضغط على العملة بهدف تحفيز النمو الاقتصادى، وهذا من شأنه أن يزيد من معاناة الصادرات المصرية، إذا استمر البنك المركزى فى سياسة الدفاع الشديد عن سعر صرف الجنيه. أما عن الاستثمار الأجنبى فى السوق المصرية فقد انخفض بشكل كبير منذ بداية العام، بسبب مخاطر العملة مع الارتفاع المصطنع للجنيه من جهة، وتراكم المبالغ المستحقة للمستثمرين الأجانب الراغبين فى التخارج من السوق (نحو 600 مليون دولار)، والتى يحتجزها البنك المركزى منذ عام 2011 نتيجة نقص موارد النقد الأجنبى من جهة أخرى. وقد كان من المتوقع أن يوجه البنك المركزى بعض المساعدات الخليجية التى حصلت مصر عليها فى مؤتمر مارس الاقتصادى فى دفع المبالغ المستحقة للمستثمرين الأجانب، وهذا كان من شأنه أن يرفع من ثقة المستثمرين، ويُسهم فى تحسن التدفقات النقدية الأجنبية فى سوق الأسهم والسندات الحكومية، إذا ما اقترن بسياسة نقدية مرنة تسمح بتقليل مخاطر العملة للمستثمرين، خصوصا أن العائد على السندات المصرية يعدّ أعلى كثيرا من العائد فى أسواق المال العالمية. ويحضرنى هنا كيف استطاعت مصر جذب استثمارات أجنبية بلغت أكتر من 10 مليارات دولار فى سوق السندات المحلية فقط عام 2010، أى نحو ضعف إجمالى إيرادات قناة السويس فى عام، لكن على عكس التوقعات، بدلا من أن نخوض معركة إدارة الخلل الهيكلى فى ميزان المدفوعات، فإذا بصانع السياسة النقدية يحشد جميع أسلحته لخوض معركة أخرى، وهى القضاء على سوق العملة الموازية عن طريق إجراءات هدفت إلى تقليل تداول العملة فى السوق الموازية، ورفع السيولة فى القطاع المصرفى، وقد نجح البنك المركزى إلى حد كبير فى تحقيق هذا الهدف، لكنه فى الوقت ذاته سبّب ارتباكا كبيرا فى النشاط الاقتصادى المحلى، خصوصا بين صغار التجار والمصنعين الذين كانت سوق العملة الموازية بمنزلة الرئة التى يتنفَّسون منها، فى ظل نقص العملة الأجنبية بالبنوك، فهل كانت معركتنا الأساسية نقل السيولة من خارج القطاع المصرفى إلى داخله؟ أم إن المعركة هى زيادة موارد النقد الأجنبى فى الأساس؟ وهل السوق الموازية للعملة هى سبب مشكلات مصر مع النقد الأجنبى؟ أم مجرد نتيجة طبيعية لإصرار البنك المركزى على الدفاع عن سعر صرف وهمى للجنيه؟ نعم ساعدت أموال الودائع الخليجية فى ارتفاع صافى الاحتياطى النقدى إلى 21 مليار دولار، لكن لا يجب أن تخدعنا الأرقام فننسى أن أغلبية هذا المبلغ عبارة عن التزامات مالية على مصر، وأن صافى الأصول الأجنبية لدى البنك المركزى والقطاع المصرفى قد انخفض بنحو 50% عن العام السابق، وأن العجز فى الميزان التجارى مرشَّح للزيادة بعد تراجع الصادرات المصرية، وهذا من شأنه أن يزيد من مخاطر الاستثمار بالجنيه المصرى، وبالتالى يُحدّ من تدفقات النقد الأجنبى فى الداخل، ويضغط أكثر على السيولة المحلية، ومن ثمّ نعود إلى المربع الأول، إذ يصبح الاقتراض الأجنبى واستمرار المساعدات الخليجية مصيريا للحفاظ على قيمة الجنيه وتأجيل فاتورة الإصلاح إلى ما شاء الله. ومن هنا يكتشف المستثمر أنه ربما كان قد أفرط فى التفاؤل بشأن إحداث تغير جوهرى فى الظروف الاقتصادية فى المحروسة، ومن ثمّ كان طبيعيا أن ينعكس هذا على أداء سوق المال. باختصار، قد تهبط أسعار الأصول أحيانا لتعكس زيادة ضريبية ما، ولكن لا تعانى البورصة على المدى البعيد إلا بسبب سياسات اقتصادية أو اجتماعية خاطئة أو مخاطر سياسية أو أمنية محدقة، فمع الاحتفال بصعود البورصة مؤخرا ينبغى علينا أن نتذكَّر أن ضريبة الأرباح الرأسمالية لم تكن أبدا سببا فى خلق أزمة السيولة المحلية، ولم تكن سببا فى إحجام المستثمرين الأجانب عن الاستثمار فى سوق الأسهم والسندات، تماما كما لم تتسبَّب فى انخفاض الصادرات المصرية بأكثر من 20% عن العام الماضى، وانخفاض صافى الأصول الأجنبية بنسبة 50%. البورصة ما هى إلا مرآة للاقتصاد الكلى.