في أول يوم دراسة بالجامعات: وزير التعليم العالي يتفقد جامعة حلوان    تراجع ملحوظ في أسعار الذهب في مصر: ضغوط اقتصادية تؤثر على السوق    محافظ الجيزة يوجه بتبسيط الإجراءات والتسهيل على المتقدمين للتصالح في مخالفات البناء    إطلاق رشقات صاروخية من جنوب لبنان باتجاه الجليل الغربي في إسرائيل    الجيش الإسرائيلي يعلن استدعاء 3 كتائب احتياطية لتعزيز الدفاع في القيادة المركزية    مراسل القاهرة الإخبارية: اللبنانيون لم يذوقوا النوم الساعات الماضية    أخبار الأهلي : أول قرار للخطيب بعد خسارة الأهلي لقب السوبر الأفريقي    ليفربول يخطط لضم نجم دورتموند في صيف 2025    الأرصاد: انخفاض جديد بدرجات الحرارة في هذا الموعد    رئيس مياه القناة: انطلاق استعدادات استقبال فصل الشتاء بالسويس والإسماعيلية وبورسعيد    إصابة 3 أشخاص في حادث على طريق العريش الدولي بالإسماعيلية    لمياء فهمي تطمئن الجمهور على حالتها الصحية بعد تعرضها لحادث سير    "وزير الدولة للإنتاج الحربي" يترأس مجلس إدارة المركز الطبي التخصصي    بدء تركيب وعاء الاحتواء الداخلي لمفاعل الوحدة النووية الثانية بالضبعة (صور)    تعرف على موعد حفلات تخرج دفعات جديدة من كلية الشرطة والأكاديمية العسكرية    الهند تحذر:استمرار باكستان في الإرهاب سيؤدي إلى عواقب وخيمة    رئيس جامعة أسيوط يشهد تحية العلم في أول أيام العام الدراسي (بث مباشر)    وزير الخارجية والهجرة يلتقي مع وزيرة خارجية جمهورية الكونغو الديموقراطية    جمهور الزمالك يهاجم إمام عاشور واللاعب يرد (صور)    أسعار الدواجن ترتفع اليوم السبت بالأسواق (موقع رسمي)    4 نوفمبر المقبل .. وزارة الإسكان تشرح للمواطنين مزايا التصالح على المباني المخالفة    سعر الدينار الكويتي مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 28-9-2024 في البنوك    تجديد حبس عاطلين متهمين ب سرقة سيارة في الشروق    30 يومًا.. خريطة التحويلات المرورية والمسارات البديلة بعد غلق الطريق الدائري    بأوتبيس نهري.. تحرك عاجل من محافظ أسيوط بعد فيديوهات تلاميذ المراكب    «الداخلية» تحرر 508 مخالفة «عدم ارتداء الخوذة» وتسحب 1341 رخصة بسبب «الملصق الإلكتروني»    تداول 47 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    3 أفلام سورية بمهرجان ليبيا السينمائي الدولي للأفلام القصيرة    بسبب طليقته.. سعد الصغير أمام القضاء اليوم    في اليوم العالمي للمُسنِّين.. الإفتاء: رعاية كبار السن واجب ديني واجتماعي يجب الالتزام به    حفيد عبد الناصر: الزعيم يعيش فى قلب كل مصرى    وزارة الصحة: إرسال قافلة طبية لدولة الصومال لتقديم الخدمات الطبية    رئيس الرعاية الصحية يلتقي عددًا من رؤساء الشركات لبحث سبل التعاون    مجسمات لأحصنة جامحة.. محافظ الشرقية يكرم الفائزين في مسابقة أدب الخيل    التفاصيل الكاملة لحفل أحمد سعد بمهرجان الموسيقى العربية    مقتل شخص في مشاجرة بسبب خلافات سابقة بالغربية    شهداء وجرحى في غارات إسرائيلية متواصلة تستهدف بعلبك والمناطق الجنوبية اللبنانية    أستاذ علوم سياسية: إسرائيل دولة مارقة لا تكترث للقرارات الدولية    وزارة العمل تستعرض أهم الملفات أمام رئيس مجلس الوزراء.. وتعاون مع "التعليم" في مجالات التدريب المهني    4 شهداء في قصف للاحتلال وسط قطاع غزة    عقوبات الخطيب على لاعبي الأهلي بعد خسارة السوبر؟.. عادل عبدالرحمن يجيب    حدث ليلًا.. حزب الله يشعل النيران في إسرائيل وروسيا تهدد باستخدام النووي (فيديو)    عودة أسياد أفريقيا.. بهذه الطريقة أشرف ذكي يهنئ الزمالك بالسوبر الأفريقي    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط» 28 سبتمبر 2024    أمين الفتوى: حصن نفسك بهذا الأمر ولا تذهب إلى السحرة    جوميز: الزمالك ناد كبير ونسعى دائمًا للفوز    مع تغيرات الفصول.. إجراءات تجنب الصغار «نزلات البرد»    حسام موافي: لا يوجد علاج لتنميل القدمين حتى الآن    جامعة طنطا تواصل انطلاقتها في أنشطة«مبادرة بداية جديدة لبناء الإنسان»    فتوح أحمد: الزمالك استحق اللقب.. والروح القتالية سبب الفوز    وزير الخارجية يتفقد القنصلية المصرية في نيويورك ويلتقي بعض ممثلي الجالية    زيزو: قرار استمراري مع الزمالك الأفضل في حياتي    برج القوس.. حظك اليوم السبت 28 سبتمبر 2024: لديك استعداد للتخلي عن حبك    أنغام تبدع خلال حفلها بدبي ورد فعل مفاجئ منها للجمهور (فيديو وصور)    ستوري نجوم كرة القدم.. احتفال لاعبي الزمالك بالسوبر.. بيلينجهام وزيدان.. تحية الونش للجماهير    تزامنا مع مباراة الأهلي والزمالك.. «الأزهر للفتوى» يحذر من التعصب الرياضي    أذكار الصباح والمساء في يوم الجمعة..دليلك لحماية النفس وتحقيق راحة البال    علي جمعة: من المستحب الدعاء بكثرة للميت يوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«التحرير» تروي حكايات عبد المنعم رياض في «مُستعمرة الجُذام»
نشر في التحرير يوم 16 - 05 - 2015


تحقيق وتصوير - شيماء جلهوم:
أرض نبتت فيها أشواك التين، وسماء تلبدت بغيوم لا يمحوها هطول المطر، يراها المار فوق الأسوار العالية فتُلقى هالة من الرعب على المكان الذى صُمم قبل سنوات طويلة، أشبه بقلعة من القرن السادس عشر صُممت على الطراز الإنجليزى، تحمل بين جنباتها رهبة الموت، واسما يعلوها «مُستعمرة الجذام».
أسوارها كانت قادرة طيلة أعوام كثيرة أن تعزل قاطنيها عن غيرهم من البشر، فتتحول حكاياتهم إلى أساطير، وتروى عنهم القصص، «لو اطّلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا»، وإن اقتربت فوجوههم مستبشرة، لم تغادرهم الأسطورة رغم مغادرتهم المستعمرة، فبقيت ملتصقة بهم أينما ذهبوا، ولم تفلح مسافة بعيدة أن تغير من الأمر شيئا، فبقوا مرضى حتى بعد علاجهم، وبقيت أسطورتهم تلاحقهم فى قريتهم الجديدة «أرض المجذومين».
كثيرون منهم لم يعرفوا إلى أين جاؤوا ولا متى حطت أقدامهم هذا المكان، كل ما يتذكرونه أنهم لم يغادروه بعد ذلك أبدا، «مرض» جاء بهم إلى تلك البقعة النائية من القاهرة، و«شفاء» منعهم من الرحيل عنها.
البداية واحدة لدى الجميع، شخص ما قريب لهم أو بعيد قادهم نحو «المستعمرة»، ثم رحل ولم يعد، لتبدأ رحلتهم فى مصارعة الموت داخل «مستعمرة الجذام بأبو زعبل»، وبعد شفائهم تبدأ رحلتهم الجديدة نحو موت آخر، لكنه خارج ذلك السور الذى يعزلهم بالاسم فقط عن زملاء لا يعلمون أن عزلهم داخل المستعمرة لا يختلف كثيرا عن عزل الآخرين بخارجها.. هنا قرية الشهيد عبد المنعم رياض «عزبة الصفيح سابقا».
فى صباح يوم حار من ربيع عام 1973، وفى جو ما زالت تتذكر الحاجة سهير محمود كيف كان مفعما بالأتربة ورياح الخماسين كما الأيام الأمشيرية، قادتها زوجة عمها إلى مستشفى أبو زعبل للجذام، بعد أن تساقطت رموشها وحواجبها، وباتت آلام العظام لا تغادر جسدها الهزيل: «25/3/1973 التاريخ ده عمرى ما أنساه».
41 عاما قضتها سهير داخل المستعمرة، مريضة فى البداية ثم زوجة لمريض لتخرج معه إلى الخارج، وتبدأ حياتها بعد الشفاء فى عزبة الصفيح، تحكى سهير: «إحنا سكنا هنا أول ما خرجنا من المستعمرة زى كل اللى خرجوا»، لم تخرج سهير من المستعمرة كما دخلتها، فقد ترك المرض بصمته واضحة على أطرافها المهترئة، فباتت لا تمد يدها لأحد خشية امتعاضه من رؤية أصابع يديها وأقدامها التى أكلها الجذام: «الحمد لله إحنا أحسن من غيرنا، بس للأسف الناس لسه بتتعامل معانا على إننا مرضى وبيخافوا مننا.. حتى السلام ماحدش بيمدلنا إيده أبدا».
رتبت سهير حياتها على أن لا أحد يريدها خارج نطاق مستعمرة أبو زعبل، فنسيت من تركتهم وراءها فى قرية الواسطى ببنى سويف: «أنا جالى المرض هناك، بس أهلى أهملوا فيا لحد ما اشتد عليا ومات أبويا، وجيت أجرى على مرات عمى أقولها ودينى المستعمرة أنا باموت»، اختارت سهير قبل 40 عاما أن تنعزل بمرضها عن الدنيا، لكن انعزالها بعد الشفاء لم يكن باختيارها: «المرض وخفينا منه، لكن كسرة النفس هى اللى فاضلة لنا».
بفضل الجمعيات الخيرية استطاعت سهير مع زوجها الراحل أن تنتقل من العشة الصفيح إلى شقة صغيرة من غرفتين وصالة صغيرة، أصبحت بعد أن كبر الأطفال «آيلة للسقوط»، لكن ما باليد حيلة سوى الجلوس أمامها كل صباح وانتظار انهيارها كل ليلة على رأسها وأبنائها «محمود ومحمد وأحمد وهدى»، تعتز بصحة أبنائها، متفاخرة أن المرض لم يعرف طريقه إليهم: «ما ورثوش المرض بس ورثوا كسرة العين.. الناس بتخاف تتعامل معاهم لما بيعرفوا إن أمهم وأبوهم كانوا فى مستعمرة الجذام».
فى القرية التى بدأت كقسم رابع لمستعمرة الجذام، خُصصت شوارع للمرضى السابقين بالمستشفى، بينما امتلأت القرية ببيوت آخرين، بنوا منازلهم فى شوارع أخرى، منازل يكسوها السيراميك البارد وتحوطها أبواب خارجية من الحديد المصفح تمنع عن ساكنيها تطفل الفقراء وتحجب عنهم رؤية جيرانهم المرضى، تقول سهير: «الناس هنا كلها عارفة بعض، وبيوت المجذومين معروفة، والجديد هنا بيخاف مننا، لكن بعد كده بيتعود، لكن المشكلة مش هنا.. إحنا مشكلتنا بره حدود القرية». يتحدث الشاب أحمد الذى يعمل خفيرا بالليل بأحد المصانع القريبة وحارسا متطوعا بالنهار للمدرسة الابتدائية الوحيدة بالقرية، والتى بنتها تبرعات برنامج محمود سعد والشيخ خالد الجندى. يتذكر الرجل كيف بنيت تلك المدرسة التى بدأ إنشاؤها قبل عام من ثورة 25 يناير لتبدأ الدراسة بها فى العام الدراسى 2014- 2015: «البلد كلها نسيانا وبتتعامل معانا كأننا مش موجودين، والعزل اللى أبويا اتعزله زمان فى المستشفى دلوقتى بقينا كلنا بنعانى منه»، الوظائف ممنوعة على شباب القرية حتى المتعلمين منهم، فهم «أولاد المجذومين»، الوصمة التى أصابتهم صغارا ففر منهم الأطفال خشية العدوى، ولم تتركهم كبارا فصار أبناؤهم من خريجى الهندسة والكليات يعملون فى نخل الرمل أو فرز القمامة، لأن الوظائف الحكومية لا تقبل من كان أحد والديه قد استوطن مستعمرة الجذام، يقول أحمد: «حالنا مايفرقش عن حال أهالينا.. هما اتعزلوا زمان ودلوقتى إحنا وولادنا معزولين». قبل عدة أشهر حاول أحمد وأهل القرية التقدم بطلب إلى محافظ القليوبية لافتتاح المدرسة التى تم التبرع بها دون أن تقدم المحافظة أو وزارة التعليم أى مساعدة تذكر: «حتى المحافظ خاف يجيلنا والمحافظين اللى قبله كانوا بيخافوا ييجوا المستعمرة فى الاحتفال السنوى ليوم مرض الجذام لحد ما نقلوا الاحتفال خالص من هنا وخلوه فى بنها». معاناة لا تنتهى لأهالى قرية عبد المنعم رياض بعد أن عزلتهم الدولة عن خريطتها، فتركتهم بلا خدمات أو مرافق فى انتظار عطف الجمعيات الخيرية وفاعلى الخير: «الناس هنا بتعيش على كرتونة بنك الطعام كل شهر، وكرتونة صفوت القليوبى كل 40 يوم، واللى بياخد الطلبية بتاعة المستعمرة بيبيع أكله علشان يعرف يصرف على علاجه ويدفع إيجاره».
«الطلبية» هى كل ما تبقى من صلة بين ماضى هؤلاء وحاضرهم، اسم فى كشف المسجلين بمستعمرة الجذام يكفل لهم أن يحصلوا بموجبه على «طعام شهرى» لا يسمن ولا يغنى من جوع.
فرخة و400 جرام لحمة و3 علب جبنة فيتا و4 علب جبنة مثلثات و2 ثمرة باذنجان وكيلو إلا الربع طماطم، هى الحصة الأسبوعية التى يحصل عليها أهالى القرية، يرفع أحدهم «باذنجان المستعمرة» بين يديه صارخا: «هو ده اللى بناخده من البلد ومن المستعمرة اللى بيجيلهم تبرعات بالملايين باسمنا، وفى الآخر مابنطولش منها حاجة».
على استحياء يجلس عم بشاى على باب منزله، يمسك بكلتا يديه كوب الشاى الساخن، يجاوره صديقه الذى ذهب نظره بسبب المرض من اليمين وتجاوره زوجته من اليسار: «هى عقلها خفيف شوية، بس مش قادر أوديها العباسية، هاصرف عليها منين هناك».
30 عاما قضاها بشاى فى مستعمرة الجذام، ليخرج بعدها لا يجد مكانا لا فى عمله القديم ولا فى شبرا الخيمة، حيث عاش سنوات عمره قبل أن يبتلى بالمرض: «ماعرفتش أرجع بعد ما خرجت من المستعمرة، لما كنت باروح أزور إخواتى كانوا بيكسروا الكوباية اللى باشرب فيها شاى، واكتفيت بالمسكينة اللى اتجوزتها ورضيت بالمقسوم».
ويتابع: «أنا مش صعبان عليا غير إننا مش لاقيين حقنا فى البلد دى.. حتى المعاش اللى المفروض لينا حق فيه، لأن المفروض الدولة بتتعامل معانا زى المعوقين لكن إحنا ما حدش حاسس بينا».
15 جنيها هى يومية عم «بشاى» الذى كفلته له بضع أصابعه الباقية،إذ يعمل فى زراعة أرض المستعمرة: «الجذام ما موتناش بس الفقر والعوزة هى اللى هتموتنا».
القرية المُبتلى أهلها بغياب أساسيات الحياة من مياه وكهرباء وصرف صحى وخدمات، أكثر ما يشغل أهلها هو بقاؤهم فيها رغم كل شىء، وأن تسمح لهم الحكومة بامتلاك الأرض التى بنيت عليها بيوتهم قبل أعوام: «إحنا ماكنش عندنا حل تانى غير إننا نبنى البيوت دى وإلا كنا هنام فى الشارع بعد ما خرجنا من المستعمرة.. ماحدش فينا يقدر يرجع إلى أهله ده غير إن فيه ناس كتير مايعرفوش فين أهلهم أصلا». سنوات عمره لا يحسبها عم بشاى بالتاريخ المدون فى شهادة ميلاده، لكنه يعدها بعدد الشعر الأبيض الذى زحف على رأسه وعيناه التى خبأ نورها، وأطرافه التى بات يحركها بصعوبة تهدد بقاء ال15 جنيها أجره عن زراعة أرض المستعمرة: «أنا مش عايز غير معاش يكفينى الحوجة ومد الإيد علشان علاج مراتى».
300 جنيه شهريا هى أقل تكلفة لإقامة «المشردين» داخل مستشفى الأمراض العقلية التى يزورها بشاى شهريا لصرف العلاج المجانى لزوجته: «اللى أقدر عليه إنى أجيبلها العلاج من هناك، لكن منين هاجيب تمن الإقامة بها».
«رِجل بره ورِجل جوه»، حكمة تنطبق على «فاطمة»، لكن قدم فاطمة المتأرجحة بين مستعمرة الجذام وبيت صديقتها فى قرية عبد المنعم رياض، لا يكل أبدا من المشوار الذى تقطعه يوميا رغم آلامها: «أنا ماعنديش بيت هنا، لكن بازهق من قعدة المستشفى وباجى أريح عند صاحبتى اللى كانت معايا فى العنبر وأروح قبل الليل».
ترك الجذام آثاره على وجه فاطمة التى قدمت إلى مستعمرة الجذام فى يد أبيها وأمها وهى طفلة فى عمر 9 سنوات: «ومن يومها وأنا ماشفتهمش تانى»، تاهت ملامح الأم من ذاكرة فاطمة التى تآكلت ملامح وجهها إثر الجذام، لم يتبق لها من ذلك اليوم الكئيب قبل سنوات لا تحصيها عددا سوى ذكرى دموع ساخنة لا تعرف لماذا كانت والدتها تذرفها وهى تحتضنها مودعة إياها فى ذلك اليوم: «أمى بس اللى فاكرة حضنها علشان أبويا كان بيخاف يلمسنى».
فاطمة لم تتزوج من المستعمرة، ولم تكفل لها ملامح وجهها التى تآكلت، وأطرافها التى تقوصت، أى فرصة فى زوج، كما حانت لآخريات كن زميلاتها: «أنا ماقدرش أخدم حد.. كفاية عليا إنى قادرة أمشى كل يوم من المستعمرة لحد هنا أزور صحبتى بدل الخنقة اللى باعيش فيها جوه المستعمرة».
«ومن الفقر ما قتل»، حال هويدا أحمد التى تعانى أمها وحماتها من ذات الداء، واحدة منهن ترقد كسيحة فى غرفة أشبه بالقبر لا يدخلها الهواء إلا عبر مروحة قديمة يعلو أزيزها، لكنه لا يغطى على صوت العجوز التى تصرخ من شدة الألم فى وجه زوجة ابنها: «جايباهم يصورونى ليه ماحدش بينفعنا فى الآخر»، تؤكد زوجة الابن أنها طلبت مرارا من جمعية كريتاس المشرفة على المستعمرة والمرضى القدامى أن ترمم لهم المنزل ولكن بلا جدوى: «حتى جوزى راح باس إيد المشرفة هناك علشان تساعده يعمل عملية فى العمود الفقرى وإشاعات لكن ماحدش ساعدنا واحنا ماحيلتناش اللضى».
الفقر الذى خيَّم على منزل «هويدا» جعلها لا تستطيع أن توفر لأبنائها الثلاثة احتياجاتهم الأساسية من مأكل ومشرب وملبس وتعليم، فلم يكن أمامها سوى أن تودعهم دار رعاية: «ودتهم ملجأ فى إسكندرية تابع لجمعية خيرية وباطمن عليهم فى الإجازات، عيشتهم كده أحسن وأنضف».
غُصة تعتصر قلبها حين تذكر أنها لم ترهم منذ انتهاء الإجازة الصيفية وبدء الدراسة: «حتى مش قادرة أسافر لهم منين هجيب 300 جنيه حق الطريق والمشوار كل شوية».
«العزل» الذى عرفه أهل القرية منذ أن عرفوا طريقهم إلى أرض المستعمرة أصبح رفيقا لهم فى كل خطوة، تبكى هويدا وهى تتذكر كيف استغلهم الجميع، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين: «كل فريق بيدى للى تبعه، اللى تبع الكنيسة بقى فوق واللى تبع الإخوان بنوا بيوت وكهرباء ومياه، وإحنا مش تبع حد ومافيش حد عايزنا».
فى عام 67 حدثت النكسة فى مصر، ولكن محمود عبد الحافظ لم يعلم شيئا عنها وقتها، فكل ما يذكره أن المستعمرة كانت تنقل سريره أحيانا إلى تحت الأرض خشية القصف من الطائرات الإسرائيلية، ففى يناير من العام المنكوب، كما يصفه «عم محمود»، كان يدخل لأول مرة «مستعمرة الجذام» ليغادرها بعد ثلاثين عاما متزوجا بزميلته فى المستشفى، ليعيش باقى عمره فى انتظار 4 أرغفة خبز يومية من المستعمرة وكرتونة بنك الطعام: «إحنا معوقين، وأغلبنا عدى الستين سنة، فين المعاشات اللى الحكومة وعدتنا بيها من سنين؟».
الزوجة «سلوى» التى طلقها زوجها الأول حين علم بمرضها ومنع عنها رؤية أبنائها حتى مات أحدهما ولم تر الآخر إلا حين كبر وعرف طريقها، أضحت اليوم لا تبحث سوى عن معاش لزوجها الثانى «محمود» يكفل لهما العيش معا بكرامة: «إحنا مانقدرش نشتغل زى غيرنا، أنا جوزى عاجز ف عنيه، وأنا إيدى راحت خالص ماأقدرش أحمل عليها فرز الزبالة ومخلفات المستشفيات».
هويدا ترى أبناءها كل صيف وسلوى حرمت منهم منذ إصابتها سهير: الناس لسه بتتعامل معانا على إننا مرضى وبيخافوا منا المحافظة تطالب أبناء المستعمرة ب 2400 جنيه لتوصيل الكهرباء للمدرسة الابتدائية
العمل الذى لم تستطع سلوى أن تمارسه، لم تجد الست ليلى سواه ليكون هو باب رزقها الوحيد، يومها يبدأ فى الثالثة فجرا، تخرج مسرعة إلى مكان عملها، حيث المكان المخصص لجمع مخلفات الطبية وفرز البلاستيك، لا ترتدى قفازا لتحافظ على صحتها أو يديها من الاتساخ، ولا يهمها كذلك تلك الرائحة التى تكسو جلبابها بعد عودتها ممزوجا برائحة القمامة والدواء الفاسد: «هو ده اللى موجود لو ما اشتغلتش هاموت من الجوع أنا وابنى وعياله الاتنين ومراته».
يقف الابن الوحيد لليلى متباهيا بوجوده فى المنزل، بينما أتت والدته من عملها للتو محملة بأكياس البطاطس والطماطم والباذنجان: «هيعمل إيه مافيش شغل غير فى التراب وحتى الأجرة بتبقى على ما تفرج.. بيقعد بالأسبوعين مابيجبش مليم، لازم أشتغل وإلا نموت من الجوع».
حال ليلى يختلف عن غيرها، فهى لم تكن يوما مريضة بالجذام، ولكنها عرفته فى زوجها الذى توفى متأثرا به، ليذهب معه كل ما كانت ترتكن عليه: «حتى كرتونة بنك الطعام ماباخدهاش علشان مش مريضة، هما بيدو بس اللى أسماؤهم متسجلة فى المستشفى والباقى مهما كانت حالته مش مهم».
يبدو من عمامته وذلك البالطو الصوف الذى يرتديه والقلم المعلق فى جيبه الخارجى أنه على قدر من التعليم، ما إن يبدأ فى الكلام حتى يصمت الجميع، يعرف الأحوال وسير الأمور، يسمع شكوى المظلوم ويطرق الأبواب ليأتى بحقه، يحكى عن زينب وليلى وفاطمة، يعرف أسرار البيوت المغلقة ولا يحكيها تعففا عن ذكر أصحابها بسوء، هو عم رشيدى أقرب ما يكون إلى لقب «عمدة» القرية، لكنه ليس كذلك: «أنا بس بدور على حقوقنا اللى رايحة فى الرجلين والحكومة كأنها مش شايفانا»، يحكى الرجل الستينى عن سنوات عاشها فى المستعمرة، ليشهد تأسيس تلك القرية وتحولها تدريجيا من عشش صفيح إلى منازل تكاد تسقط على أصحابها من فرط تهالكها: «الناس هنا اتعزلت فى المستعمرة مرضى وخرجوا منها اتعزلوا هنا عن الدنيا كلها وهما هنا كمان معزولين عن الناس الأصحاء اللى جم حطوا علينا وعاشوا وسطنا وبعدين عايرونا بمرضنا»، معاناة لا تنتهى فى قرية المجذومين يصفها الرشيدى بأنها «القرية المنكوبة»، نكبها المرض ثم الجهل والفقر: «الحكومة ما بتديناش كهرباء وسرقينها ولكن بييجوا ياخدوا مننا فواتير كهرباء والميه اللى بنجيبها بالطرمبة والتوصيلات عملتها الجمعيات الخيرية، برضه الحكومة بتدفعنا فواتيرها، رغم أننا معانا قرار من 2007 بعدم دفعنا للفواتير.. ويا ريتنا بنشرب ميه نضيفة ويا ريتها موجودة لا دى كمان بتقطع كل يوم 8 ساعات».
500 منزل فى قرية عبد المنعم رياض لأسر لا يقل عددها عن 6 أفراد ليس لديهم ما يكفل لهم طعاما ولا شرابا ولا مأمنا. بصعوبة شديدة تم بناء مدرستين فى القرية ابتدائى وإعدادى، وهو ما وفر راحة لأهالى القرية بعد معاناة أطفالهم فى طريق طويل يصل إلى 5 كيلومترات يقطعونها مرتين يوميا لأقرب مدرسة، يؤكد رشيدى: «المدرستين اتعملوا بالتبرعات والجهود الذاتية لكن لحد دلوقتى مش عارفين نوصل كهرباء إلى المدرسة ولا ميه نضيفة العيال تشرب منها».
2400 جنيه هى تكلفة توصيل الكهرباء للمدرسة الابتدائية التى تطلبها المحافظة لإتمام التوصيل: «طب هندفعها منين حتى الغفرا اللى بيشتغلوا فى المدرسة ماحدش خد منهم مليم من أكتر من سنة».
المياه المالحة هى المشكلة التى تهدد صحة الجيل الجديد من سكان القرية، بحسب الرشيدى: «إحنا كنا هنموت من الجذام، لكن دلوقتى عيالنا هتموت بالفشل الكلوى اللى هيجيلهم من ميه الطرمبة اللى بيشربوها.. إحنا بنموت من العطش وجنبنا ترعة الإسماعيلية ورافضين يمدوا لنا خط ميه هنا رغم أنها بتمر بعدينا.. إحنا صفر فى البلد دى والحكومة كانت نفسها نموت وتخلص مننا».
على مدار السنوات عدة عاشها مرضى الجذام داخل المستعمرة أو فى محيط قسمها الرابع بقرية عبد المنعم رياض لم يسمعوا مرة عن زيارة لوزير الصحة إلى المستشفى، ولم يشاهدوا مسؤولا يدخل المستعمرة كما يحكى الرشيدى: «مرة جه عدلى حسين محافظ القليوبية السابق علشان يفتتح شغل لجمعية كريتاس عاملينه فى المستعمرة، ورفض إنه يسلم على أى حد مريض فى المستعمرة».
لم يعد الأهالى يبالون بمرضهم، فهم يتركونه إلى الله الذى أنشأهم أول مرة، فهو قادر أن يعيدهم سيرتهم الأولى، ولكنهم يرفعون مطالبهم فى حياة عادلة إلى رئيس الجمهورية هذه المرة، الرئيس عبد الفتاح السيسى. يتحدث الرشيدى: «إحنا صوتنا كان ليك يا ريس وعايزين العدل وحقنا فى حياة كريمة مش هنعيش كل حياتنا فى العزل».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.