يولد الفرد مُكتسبا تركيبة من القدرات العقلية والنفسية والعاطفية، لكن تنشئته المجتمعية ترسخ فيه وتوجهه إلى أنماط معينة من التفكير والسلوك، كما تشكل فيه أيضا أنماطا من التفكير والإحساس والمزاج. وخلال فترة الطفولة يتم النمو الذهنى للطفل على عدة مراحل، كما فى النظرية التى قدمها عالم النفس السويسرى (1896- 1980) بياجيه «Jean Piaget»، وهى مراحل تتميز بأنماط ذهنية، تمثل محصلة سلوكيات مبنية على علاقات وثيقة بينها على أساس معنى جوهرى. ويعتبر النمط الذهنى «schema» الوحدة الرئيسية فى تنظيم المعارف وضبط السلوكيات، وتتكون العمليات الذهنية من العديد من الأنماط التى تختص بالتفاعل، مع ما يتلقاه عقل الطفل من معطيات حسية كالصوت واللمس والذوق والحركة وهكذا. وينتقل الطفل من مرحلة إلى أخرى، مع حدوث تغيير فى التركيبة الذهنية على عدة مراحل، تنتهى عند نحو 11 سنة عندما يستطيع الطفل أن يستخدم الأفكار المجردة والرموز، ليقوم بعمليات عقلية معقدة، وفى الدراسات التى قام بها المتخصصون، ليتأكدوا من نتائج بياجيه، توصلوا إلى أن هذه القدرة على التفكير المنطقى العقلانى قد لا تتوفر حتى لبعض البالغين وطلبة الجامعات! كما وجد العلماء أن أساليب التنشئة تلعب دورا مهما فى النمو الذهنى، ومن ثم يؤدى تدريب العقل خلال الطفولة المبكرة على الحفظ والتكرار، وإحباط النزعة لطرح الأسئلة، وارتباط ذلك بالضرب والإهانة، والمطالبة بالطاعة العمياء، إلى أنماط ذهنية وتركيبة عقلية لا تمتلك القدرة على التفكير الحر، بل وتعادى أى أنماط أخرى مخالفة لما نشأ عليه الفرد. وفى دراسة لبياجيه (1932) عن نمو الحس الأخلاقى عند الأطفال، توصل إلى أن الطفل يُكَوِّن قِيَمُه الأخلاقية الخاصة به عندما تتاح له الفرصة للتفاعل مع أقرانه، بخلاف الطفل فى المجتمع الذى يفرض فيه الكبار عليه معاييرهم الأخلاقية بصرامة وحزم. وفى دراسة لاحقة، وجد لورانس كولبرج (1958) أن هناك مستويات أخلاقية قبل سن التاسعة تتميز بمحاكاة وتقليد الطفل للقيم التى يقدمها إليه الكبار. وفى المراحل الأولى من المستوى الأول يتصرف الأطفال لمجرد تفادى التوبيخ أو الضرب أو اللوم. وفى المرحلة التالية من المستوى الأول يكتشف الأطفال أن هناك أكثر من وجهة نظر صائبة. وفى المستوى الثانى ويشمل معظم المراهقين والبالغين يستبطن الفرد القيم الأخلاقية للأشخاص الذين يعتبرهم نموذجا يستحق التقدير، ولذلك يكون للنماذج «الناجحة» التى يروج لها الناس والسينما والتليفزيون التى تحظى بالإعجاب لما تتمتع به من ثروة، أو تعليم، أو مهابة احترام، دور مؤثر فى أخلاقيات النشء والشباب. وفى بداية هذا المستوى نتصرف حتى يرانا الآخرون كأشخاص متمتعين بالقيم السائدة فى المجتمع أو البيئة الاجتماعية التى ننتمى إليها، سواء كانت التدين أو إظهار المكانة الاجتماعية أو الانتماء إلى الأسرة. وفى مرحلة تالية، لذلك يصبح الشخص مدركا للقوانين والأعراف، وتصبح قيمُه الشخصية نابعة من احترام القوانين. ولكن هناك مستوى أعلى لا يدركه عادة سوى 10- 15% بعد سن 35 سنة، وعند هذا المستوى يدرك الشخص أن هناك مَن قد يتضررون من القوانين، ويتساءل هل يحترم القوانين على حساب المحافظة على الحياة أما أنه من الأفضل أن يحافظ على الحياة ولو على حساب القانون؟ أما فى المرحلة الأخيرة فقد يتوصل البعض إلى تكوين القيم الخاصة بهم، التى يمكن تعميمها على جميع البشر كحقوق إنسانية، كما يكونون مستعدين للدفاع عن قيمهم الأخلاقية. وبغض النظر عن التتابع العمرى لهذه المراحل، يمكننا إدراك أن هناك اختلافات بين البالغين تمثل كل هذه المراحل، أى أن ظهور نمط مميز لمرحلة أعلى قد يصحبه استمرار لنمط أو أنماط سابقة. وهكذا قد تتلازم الأنماط الأخلاقية المختلفة، وقد يقوى تفعيل بعضها أو يقل تبعا للتفاعل مع المجتمع، أو للمصلحة الشخصية، أو حسب الفرص المتاحة أو الضغوط والمؤثرات. ويختلف الأفراد أيضا فى نوعية القيم (أسرية، مهنية، وطنية، إنسانية، دينية)، والوزن الذى تحتله واحدة من القيم، كأهمية القيم الأسرية مقابل قيمة الالتزام بالقانون. هناك إذن نمو ذهنى ونمو لمنظومة القيم الأخلاقية تعتمد على مواريث بيولوجية وبأساليب التنشئة، ولأننا نعيش مع آخرين فلا بد من ظهور واستتباب وتوافق على قيم معينة، ويتم التفعيل عن طريق التنشئة المجتمعية والقوانين. ومن الدراسات التى ذكرناها عن نمو الأنماط الذهنية عند الأطفال والبالغين ندرك أن هناك تمايزا واختلافا بين الأفراد فى الأنماط التى تشكل وجدانهم، وبغض النظر عما إذا كانت الأنماط القيمية نتيجة لما هو فى اللا وعى أو التفكير الواعى فنحن فى حاجة إلى قوانين وأعراف. ولذلك فالمهم، هو طرح سؤال قيم فى إطار المسؤوليات والواجبات، مع الأخذ فى الاعتبار أن أولياء الأمور فى المجتمع قد يكونون مسؤولين عن التنشئة السيئة التى تؤدى إلى تدهور الأحوال حتى الجرائم. وفى الأمم التى تتكون من مجتمعات متباينة التى لا تتمتع بنظام تنشئة وتربية وتعليم موحد، قد تنشأ اختلافات بين الجماعات والقوى التى تفرض أو تعزز القيم الخاصة بها التى قد لا تكون فى صالح الأمة ككل، بمعنى أنها تعود بالضرر على كل الجماعات. وبالتالى سيعتمد صلاح المجتمع على الترويج لمنظومة القيم والأنماط الذهنية التى تسهم فى الرضا وقبول الآخرين والتناغم فى نسيج مجتمعى متماسك، وعلى نظام تربوى يشجع الأطفال على الإحساس بالواجبات والمسؤوليات وعلى التحرر من الطاعة العمياء والتقليد، والتفكير فى ما ينتج عن الأفعال من آثار نافعة أو ضارة، والقدرة على اتخاذ القرارات بناء على قناعة شخصية.