القُبْلة شغف، توق وجوع ورغبة، سعى للاتصال بالآخر حتى الاكتمال، هى فعل جنسى أو على الأقل مقدمة له، بداية تجربة بين رجل ما وامرأة ما، ربما تكتمل وتفتح أبواب الرغبة إلى مداها، وربما تبقى كما هى مجرد فرصة ناقصة، لكنها رغم ذلك ذكرى جميلة، مهما كانت مدتها ونوعها، فى روايتى الأولى «انكسار الروح»، وهى مثل الروايات المبكرة تحمل بعضا من السيرة الذاتية لمؤلفها، وصفتُ القُبْلة الأولى فى صفحتين، وكما هى العادة أعجبت التفاصيل بعض القراء، ورآها البعض الآخر مملة، لا تضيف جديدا، ربما كانت تجربتهم أكثر عمقا، لكننى كنت أعبر عن دهشتى وانبهارى بالقبلة الأولى، بالنشوة التى تغمر الجسم، وتدوم بعد انتهاء القبلة بأيام، عرفت بعدها أن هناك غددا معينة داخل الشفاة، تظل ساكنة وجامدة، لا تعمل وتفرز عصاراتها إلا عند حدوث عملية التقبيل، فالقبلة ليست مجرد اندفاع عاطفى، لكنها عملية بيولوجية صممت خصيصا لبعث البهجة فى الروح، وكما يقول شكسبير «سوف أنزع هذا الشتاء من شفتيك»، فدون القبلة لا يسرى الدفء ولا تتفتَّح مسام الرغبة، لا يعرف الجسم طريقه إلى النضج، وعندما تقول بطلة روايتى فاطمة: «كل مكان فى جسدى صالح للقبل»، فهى تتحدَّث عن شيئين متناقضين زمنيا، عن ذكرياتها فى مرحلة الطفولة عندما كانت أمها تقبِّل كل جزء من جسدها كفعل كل الأمهات، وعن نزوعها للنضج الجسدى حين تتلقى القبل من الرجل الذى تعشقه، يقال إن اهتمام الرجل بالقبل يقلّ تدريجيا مع تقدمه فى السن، وتظل المرأة على الدرجة نفسها من الشغف، لا أعتقد ذلك، وإلا فمن يوقظ الغدد النائمة؟ ولا ينفرد الإنسان وحده بفضيلة التقبيل، بعض أنواع الحيوانات تجيده أيضا، القرود من نوع «البابون» أساتذة فى هذا الأمر، ولا توجد عندها موانع، الكلاب والقطط لا تكفّ عن حكّ أنوفها ببعضها البعض، قبلات مختلفة، لكنها تشبع رغبة التلامس والتواصل، لكن هذا لا يمنع أن هناك ثقافات أخرى لا توجد فيها قبلات، بعض القبائل المنعزلة فى أستراليا، وفى أعماق الغابات المطرية تحرّم القبل، ربما كان السبب فى ذلك هو التغذية عن طريق التقبيل، فالأم تقوم بمضغ الطعام ثم تنقله إلى طفلها عن طريق الفم، القُبْلة هنا أموية فقط، وسيلة للتغذية والبقاء وليس للإثارة الجنسية، لكن ثقافة القبلة ضاربة فى عمق التاريخ الإنسانى، وعلى غير العادة لا نجدها فى نقوش القدماء المصريين، عندما جاء «هيرودت» إلى مصر وجد المصريين يقبّلون الأرض تحت أقدام ملوكهم، لكن لا يقبّلون ثغور نسائهم رغم أنها أجمل وأحنّ، لكنه وجد الفرس يُقبّلون بعضهم حسب المركز الاجتماعى، فالناس من نفس الطبقة يقبلون بعضهم عن طريق الفم، لكن الأقل طبقة لا يتجاوزون قبلة على الخد أو اليد، لكن الهنود احتفوا بالقبلة حقًا، خصوصا فى كتابهم الشهير «الكاماسوترا» عن فن الحب، وقد كتب فى القرن الثانى بعد الميلادن، ويحاول فيه أحد الفلاسفة شرح الأوضاع الجنسية المختلفة، التى تقوم بها البغايا داخل المعابد، وهو كتاب مقدَّس، لأن الجنس كان ضمن طقوس فى العبادة الهندوسية، وقد خصص الكتاب فصلا عن أوضاع التقبيل المختلفة، وعندما قام الإسكندر الأكبر بغزو الهند، اكتشف جنوده هذا الكتاب المزيَّن بالرسوم التوضيحية، ونقلوه إلى اليونان، وعرفت أوروبا للمرة الأول فنون التقبيل الشرقية، أى أن الهند هى التى علَّمت العالم الأهمية الحسية للقبلة، ورغم ذلك فهم يفعلون فى أفلامهم كل شىء إلا أن يتبادل المحبون قبلة واحدة، ربما كانوا يؤمنون أن هذا ليس فعلا علنيا، لكن الرومان هم الذين اكتشفوا سحر القبلة، واستخدموها فى كل الأغراض، يتعارَف الجنسان للمرة الأولى من خلال القبل، ويختمون بها صفقات البيع والشراء، ويقسمون بها على سرية المؤامرات التى يعقدونها، لكن هذه الموجة من القبلات الحارة انتهت مع ظهور المسيحية، كانت الكنيسة معقدة من القبل، خاصة يوم الخميس، اليوم الذى قبّل فيه الخائن «يهوذا» المسيح، بعد ذلك سلمه للرومان ليقوموا بصلبه، استبدلوا ذلك بتقبيل طرف رداء الملك وصندل البابا، وسنّت نابولى قانونا يعاقب بالموت كل من يضبط وهو يقبّل، وما زال هذا القانون موجودا فى بعض ولايات أمريكا، لكنه معطّل بالطبع، لأن الجميع الآن يمارسون التقبيل العنيف فى الشوارع وعلى الطريقة الفرنسية أيضا. العرب كانوا وما زالوا أكثر تحفظا، كل أمور العشق، كل قصص الحب تدور فى السر، لكنه سر مفضوح، فالشعراء ورواة الأخبار لا يكفون عن الثرثرة وإثارة غيرة الآخرين، وقد تبرَّع الفقيه ابن حزم ليضع قواعد العشق فى كتابه «طوق الحمامة»، ويُقسِّم هذا الشيخ الفطن جسم المرأة إلى قسمين، الجزء الأعلى يخصّ العشيق، من تقبيل وترشيف ومداعبة، على أن لا يتعدّى ذلك إلى الجزء الأسفل، الذى هو من حق الزوج وحده، ومهما قيل عن الحب العذرى فلم يكن الأمر يخلو من القبلات، «قيس» لم يكن يكفّ عن تقبيل «ليلى العامرية»، وكذلك بقية العشاق العذريين، الشاعر «كثير» هو الوحيد الذى فشل فى أن يظفر من «عزة» بقبلة واحدة، ربما لأنه كان شديد القصر، وعزة فارعة الطول. ما أجمل الحديث عن القُبل، لعن الله السياسة.