ليس نور الشريف مجرد مشخصاتى مجتهد أو عابر فى مسيرة السينما المصرية الطويلة، ولكننى اعتبرته دومًا نموذجًا لما نطلق عليه «فنان السينما» الذى يمارس التشخيص والإنتاج والإخراج، والذى يمتلك رأيًا ورؤية عن مشكلات الصناعة وماضيها وحاضرها ومستقبلها، والذى يعرف كيف يقرأ ويحلِّل الأفلام القديمة والحديثة، فنان حقيقى أصقلت الدراسة والخبرة موهبته، وحافظتا له على موقع متميِّز منذ النصف الثانى من الستينيات من القرن العشرين. ليس سهلًا ما فعله نور فى مشواره الطويل، ولست محايدًا بالقطع فى الحديث عنه، فهو أحد أوائل الممثلين الذين عرفناهم فى صبانا المبكِّر فى السبعينيات، ونحن نكتشف عالمَى التليفزيون والسينما، بل إن أول فيلم سينمائى شاهدته وأنا طفل فى دار العرض بمدينتى نجع حمادى، كان من بطولة نور الشريف، مجرد فيلم هامشى فى مسيرته بعنوان من البيت إلى المدرسة ، بمشاركة نجلاء فتحى، ومن إخراج أحمد بهاء الدين، ومن المسلسلات الأولى التى حفرت عميقًا فى ذاكرة الطفولة حلقات القاهرة والناس بطولة نور وفاطمة مظهر وأشرف عبد الغفور ومحمد توفيق وكريمة مختار، لم أحب فى البداية أداءه وصوته العالى ومبالغته فى تحريك يديه مع كل جملة حوار تقريبًا، ولم أحب أداءه فى عمل آخر من أعمال السبعينيات بعنوان واحترق القناع ، ما زلت أتذكَّر بعض مشاهده، وطريقة نور المسرحية، ولكن الطريقة التى تمكَّن بها هذا الممثل الذى تخرَّج فى معهد الفنون المسرحية، من تطوير نفسه تستحق الدراسة بالفعل، وقد ظلَّت عندى دومًا شيئًا عظيمًا ولافتًا. أتذكر أمرًا آخر من طفولتى، فقد قرأت فى السبعينيات صفحات هامة من مذكراته فى مجلة آخر ساعة ، كانت تنشرها على حلقات الصحفية والناقدة إيريس نظمى، أدهشتنى صراحة الممثل الشاب الذى ينتقد نفسه، والذى يقول إنه مرّ بفترة ضياع كاملة بسبب النجاح المبكر، كان يترك الأفلام باستهتار، ويسافر إلى بيروت، ليظهر فى أفلام تافهة، تراجع عن مكانته بعد مقاطعة المنتجين، ولكنه عاد بقوة بعد أن استعاد التزامه، أدهشنى حديثه عن تجاربه المبكرة فى معهد الفنون المسرحية، حكايته عن استخدامه الحركة البطيئة للممثلين فى مسرحية أخرجها قبل أن تستخدم هذه الحركة فى مسرحية مدرسة المشاغبين ، حكاية غرامه مع بوسى التى شاهدها وهى صبية يافعة فى أحد الأفلام، فقرر أن يتزوجها، وحديث نور عن موعود (أغنية عبد الحليم)، التى استمع إليها بعد عقد قرانه على بوسى، وبالذات أصداء مقطع وابتدى المشوار ، ما زالت هذه المعلومات محفورة فى عقلى رغم مرور كل هذه السنوات. تغيّرت نظرتى إلى أدوار نور الشريف مع مراحل نضجه المدهشة، حتى طريقته فى الحديث كانت مختلفة، أتذكَّر أننى شاهدت له حوارًا كان يحلِّل فيه طريقة أداء عبد الحليم حافظ لأغنية أهواك من الخمسينيات إلى السبعينيات، فى حواراته المنشورة ما يكشف عن معاناة حقيقة بحثًا عن طريقة للأداء أكثر بساطة، يتحدَّث مثلاً عن أستاذَين منحاه فى البدايات بعض المفاتيح: حسن الإمام الذى قال له: قبل ما تقول الجملة بلسانك قولها بعنيك ، وسعيد مرزوق الذى جعل الممثلين على طبيعتهم، وكأن الكاميرا قد تسلَّلت لتصورهم فى فيلمَى زوجتى والكلب و الخوف ، نور فى العملين يقدّم نفسه بصورة أفضل بكثير، لأنه تحت إدارة مخرج سينمائى كبير، لو تابعت المسافة الكبيرة بين خطواته الأولى وأدواره الناضجة كما فى الكرنك و سواق الأوتوبيس و ليلة ساخنة و قلب الليل و دماء على الأسفلت و حدوتة مصرية و الإخوة الأعداء و آخر الرجال المحترمين و العار و ناجى العلى و بتوقيت القاهرة ، لاكتشفت أن نور اشتغل بجدية ودأب ليقطع هذه المسافة، ليس سهلًا أبدًا أن تعمل مع مخرجين متنوعين، وأن تحافظ على هذا المستوى الذى يعتمد على التحليل الواعى للشخصيات، وعلى تبسيط الأداء، مع اختيار سيناريوهات جيّدة، إذ لا معنى أن تؤدّى دورًا لشخصية درامية مميزة ولكن فى سيناريو ردىء، وراء الاختيار دراسة ووعى هما اللذان جعلا نور يحافظ على تألقه رغم ظهور أجيال متتالية، ورغم أنه مرّ شخصيا بانتكاسة فى بدايته، كان يمكن أن تقضى عليه وهو فى أول الطريق. الفنان الواعى بداخله هو الذى جعله يعترف بأقدار الآخرين، فيقول إن محمود عبد العزيز يستحق جائزة أفضل ممثل عن دوره الاستثنائى فى الكيت كات مقارنة باجتهاد نور فى دور الأخرس بفيلم الصرخة ، ونور هو الذى رشّح محمود ياسين للتكريم بدلًا منه فى دورة جمعية الفيلم الأخيرة، فقال لمَن اتصل به: محمود أولى منى بالتكريم ، ونور هو الذى منح فرصة الإخراج لأسماء جديدة هامة، مثل محمد خان وسمير سيف، كان خان سينتج ضربة شمس من تحويشة العمر، ولكن نور تحمَّل مخاطرة الإنتاج. فى تجارب نور التليفزيونية دور عظيم فى مسلسل بعنوان أديب ، لا يتحمَّس لهذا الدور الصعب والمركب، ولا يؤدّيه بمثل هذه البراعة سوى فنان مثقَّف وواعٍ، ظل نور دائمًا يترجم حماسه إلى مشروعات، لا يكتفى بالأحلام، فى وقت مبكر من نجوميته قَبِل دور مفتش البوليس الأقل فى مشاهده فى فيلم سونيا والمجنون ، لعبه باقتدار ورسوخ، أراد أن يقدّم الدور على الشاشة الكبيرة بعد أن لعبه فى مسرحية بالمعهد، نور جهاز استقبال مذهل استفاد من كل الكبار الذين عمل معهم، لم يتوقَّف أبدًا عن التعلم وتطوير نفسه، هذا هو سرّه البسيط، ودرس حياته العظيم.