بصراحة شديدة نستطيع أن نقول إن الحرب الحقيقية على المنظمات «الإرهابية التكفيرية» لم تبدأ بعد، وكم أخشى أن لا تبدأ نهائيا، وربما تكون ساذجة ومتعثرة ومفعمة بالتقصير، فالإرهاب التكفيرى هو مجرد منتج لمعتقدات تكفيرية تقود إلى ارتكاب جريمة أو فعل الإرهاب، لذلك فإن دور الجيش والأجهزة الأمنية سيظل متركزا على هذا المنتج الإرهابى ومن يمارسونه، لكن أدمغة هؤلاء ستزداد صلابة لغياب النظير العقائدى والفكرى الراجح. فالجيش والأجهزة الأمنية يحاربون بضراوة معاقل الإرهاب والإرهابيين، لكن باقى الأجهزة التى لها علاقة بالمواجهة الفكرية والعقائدية، رغم كثرتها وتنوعها، ما زالت معطلة خصوصا الأزهر والأوقاف والإعلام والثقافة والمدارس والجامعات، لسبب أساسى هو أنه لم تتوفر بعد الدراسات العلمية التى تجيب عن عشرات من الأسئلة الحائرة من نوع: لماذا ينجذب الشباب إلى الالتحاق بالمنظمات الإرهابية؟ وما الخطاب العقائدى والفكرى الذى تستخدمه تلك المنظمات لتجنيد الشباب؟ وما أدوات التجنيد والإغراء؟ وما مصادر تمويلهم وكيف يمكن التصدى لهذا كله؟ وبداية نقول لن تنجح مواجهة الإرهاب بإغلاق المساجد فى غير أوقات الصلاة فهذه حجة العاجز، تماما مثل رجل أصيبت ساقه وبات عاجزا عن تحمل الألم فيقوم ببترها، أو كالذى وصلته أنباء بتفشى وباء فى بعض الأطعمة فيتوقف نهائيا عن الطعام وفى النهاية يموت. ولن تنجح مواجهة الأزهر الإرهاب بتعميم موضوعات محددة لخطبة الجمعة فى المساجد بعيدة تماما عن أحداث الواقع وتحدياته، فلا يليق أبدا والبلد كلها تغلى بالأحداث أن تكون خطب الجمعة فى عناوين مثل: مكانة المرأة فى الإسلام، أو مثل مكانة الشباب، أو النجاسة والطهارة وغيرها من الموضوعات التى تعد موضوعات هروبية من مواجهة الأحداث وخلفياتها الفكرية والسياسية. والإعلام أيضا مشغول بقضايا تفكيكية للتماسك الوطنى، وبالإغراق فى الإسفاف، وكأن الإسفاف هو البديل الموضوعى للتطرف الدينى أو نكاية فى التطرف الدينى. وكذلك المؤسسات الثقافية، والجامعات والمدارس كلها خالية من تناول قضايا تحمى الشباب والشعب من غواية الإرهابيين وتضليلهم. فعلى سبيل المثال يقوم مشروع الدولة الإسلامية الذى طرحه تنظيم داعش على دعوة تأسيس دولة الخلافة الإسلامية التى تعنى فى جوهرها قيام دولة تمتد وتشمل ولايتها ومسؤولياتها وتابعياتها المسلمين جميعا فى كل أصقاع الأرض، هكذا تطرح فى هذا العصر، دولة يتبعها كل مسلم أينما كان وعليها مسؤولية حمايته والدفاع عنه، أينما كان، ومثل هذا المفهوم طرحه أبو بكر البغدادى الخليفة إبراهيم فى خطابه الأول الذى أعلن فيه نفسه خليفة للمسلمين 29 يونيو 2014 ، والذى استعار فيه كثيرا مما ورد فى خطاب خليفة رسول الله أبى بكر الصديق رضى الله عنه حين تولى الخلافة. ولا شك أن شعار دولة الخلافة شعار جذاب لا يحتاج إلى جهد ليدخل قلوب الناس فى كل مكان، ذلك أن الأنظمة الحاكمة: المستبدة والظالمة والفاشلة والقاتلة، وكذلك الاستهتار العالمى بكل أوضاع المسلمين واحتياجاتهم وكرامتهم، استدعت صورة الخلافة كحاضنة للمسلمين جميعا، وكمحققة لكرامتهم وعزهم ومكانتهم ودينهم، وهذه صورة الخلافة الإسلامية النقية والراشدة التى لم توجد فى التاريخ، بهذا الشكل، إلا لسنوات معدودة، لكن ذاكرة الشعوب لا تسترجع فى أوقات الأزمات، إلا النقاء والصفاء والمثالية للمراحل والأحداث والنماذج القيادية. وفى إطار نظرة النقاء هذه ينظر إلى دولة الخلافة كتاريخ وكوعد إلهى بشّر به رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وينظر إليها كسبيل وحيد لإنقاذ الأمة مما هى فيه، وينظر إلى ما نحن فيه من فرقة وضعف ومظالم وتمزق كعقاب إلهى، لأننا فرطنا فى استرجاع دولة الخلافة، أو إقامتها من جديد على منهج النبوة. هل بحث أحد تفاصيل قضية الخلافة تاريخيا؟ وهل طرح أحد رؤى نقدية تفند هذه الدعوة وتقنع الشباب بالحجج العقائدية والفكرية بعبثية هذه الدعوة الآن؟ وهل تصدى أحد لشرح خلفيات هذه الدعوة وإقناع الشباب والناس بأنها كلمة حق يُراد بها باطل؟ هناك العشرات من هذه القضايا التى ما زلنا نتجاهل الخوض فيها والتى ما زالت كل مؤسسات الدولة ذات العلاقة بالتنشئة والتعليم والتثقيف والإعلام مقعَّدة فى تناولها، وهذا ما يعطى لمبادرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة بالتعاون مع اتحاد جامعات العالم الإسلامى والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة إيسيسكو أهمية كبيرة. فقد تحمل كرسى الإيسيسكو- الاتحاد حول قيم الحوار وثقافة السلام فى جامعة القاهرة برئاسة أستاذتنا الجليلة الدكتورة حورية مجاهد وبرعاية رئيس جامعتنا الدكتور جابر نصار عقد ندوة على مدى يومين 17- 18 ديسمبر الجارى تحت عنوان تحليل الأبعاد الإسلامية فى الرسائل العلمية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة بهدف التعريف بما هو موجود فى الكلية من مدارس فكرية مختلفة وإبراز مدى اهتمام الدارسين بإدخال البُعد الإسلامى فى دراساتهم، مع استخدام المناهج وأدوات التحليل المختلفة فى مجالى الاقتصاد والعلوم السياسية، وهو ما يشير إلى مدى اهتمام الكلية، حيث زاد عدد الرسائل العلمية التى تناولت البُعد الإسلامى على أكثر من مئة رسالة ذاخرة بالفكر والوعى والتحليل والرؤى النقدية. يبقى أن ننهل من هذا الكنز الفكرى وغيره من الكنوز الفكرية والثقافية التى ننعم بها، كى نخطط لحرب فكرية وعقائدية علمية قادرة على دحض وهزيمة الإرهاب وأفكاره. وللحديث بقية .