138 شابًّا من أنبه شبابنا الذين سهروا الليالى وكدّوا وتعبوا حتى تخرَّجوا فى كليات الحقوق مزهوّين بتفوقهم وتميّزهم فى علوم القانون، فلما تقدَّموا بأوراقهم للعمل بالنيابة العامة انكسرت قلوبهم الغضّة بعدما صدمتهم بوحشية حقيقة أن القانون فى بلادنا بل والدستور نفسه ليس فى إجازة فحسب، وإنما هناك مَن دفنه حيًّا تحت ركام أحط المفاهيم وأكثرها غلظة وقسوة وهمجية وبُعدًا عن أبسط الحقوق الإنسانية.. لقد تم رفض طلبات تعيين هؤلاء الشباب فى وظائف قضائية يستحقونها وجديرون بها.. لماذا؟! لأنهم أبناء ملح الأرض وسبب عمارها العمال والفلاحين وسواهم من أغلبية الشعب المصرى المكافح الذين لم يحصلوا على شهادات جامعية، لكنهم بالعرق والجهد والجهاد ربّوا أولادهم وعلّموهم وسهروا على رعايتهم حتى فازوا بالتفوُّق وارتقوا أعلى الدرجات فى التعليم العالى!! لقد تردّدت كثيرًا فى الكتابة عن هذه الفضيحة المدوية، لا لسبب سوى أن العبد لله غاضب وحزين ومنفعل جدًّا إلى درجة خشيت معها أن تفلت أعصابى ويشطح منى القلم فيذهب فى نقد هؤلاء الذين يفترض فيهم الاستبسال فى الدفاع عن قيمة العدل واحترام القانون وحماية حقوق الناس، إلى حد رميهم بأنهم ينتهكون أبسط مبادئ العدالة ويمسحون الأرض بأعظم وأخطر مبادئ الدستور الذى هو أبو القوانين جميعًا. غير أننى الآن أكتب وأجاهد نفسى لئلا يتفجَّر غضبى حممًا فتضيع القضية الشريفة خلف عواصف الهجاء (هو هجاء مستحق على كل حال).. فأما القضية فهى ذلك الحق الإنسانى فوق الدستورى الذى لم يفعل دستورنا سوى أنه أقرّه ونصّ عليه فى بند صريح وواضح وقاطع، أى البند رقم 53 الذى يقول بالنص والحرف: المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى أو الجغرافى، أو لأى سبب آخر . إذن وكما ترى، فإن استبعاد شباب نابه ونابغ ولا ينقصه شىء من شروط استحقاق الوظيفة القضائية بذريعة أن أهلهم ليسوا من المستوى الاجتماعى الذى يطلبه بعض القائمين على مؤسسة العدالة، إنما هو جريمة إنسانية ودستورية لا تُغتفر ويستحيل تبريرها أو تسويغها بأى حجة، خصوصًا لو كانت من النوع ذلك الشرط بالغ الشذوذ والتعسُّف الذى جرى وضعه بليل وتحت جنح ظلام عقلى وضميرى دامس جعل من الطبقية المقيتة معيارًا للفرز والتمييز بين المواطنين وظلم شباب كل جريمتهم أنهم يتشرَّفون بالانتماء إلى أُسر مكافحة تغالب الفقر وسوء الحال لكى تترقّى وتسّلح أبناءها بالعلم والنبوغ المعرفى. هنا تبدو سبيكة الظلم والقسوة فى أشد صورها قبحًا وفجاجة ولا معقولية، حيث يتحوَّل القهر الاجتماعى إلى قدر أسود أهوج ينتقل من الآباء إلى الأبناء، كما يصير البؤس سجنًا رهيبًا عابرًا للأزمان والأجيال، يحجز خلف أسواره الشاهقة الأغلبية الساحقة من أهل الوطن الذين عليهم البقاء حتى الموت بغير أمل فى الخلاص، كما لن يشفع لأولادهم جهادهم واجتهادهم وتفوقهم العلمى، ذلك الذى ظنّوه من فرط البراءة كافيًا لفتح ثغرة فى جدران زنازين الظلم المظلمة، يمر منها ضوء العدالة ونور التقدم والحياة الإنسانية الكريمة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.