بسم الله الرحمن الرحيم «إنا أنزلناه فى ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر. تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. سلام هى حتى مطلع الفجر». هذه سورة «القدر» المكية وآياتها خمس، وتتحدث عن الليلة الموعودة المشهودة، ليلة اتصال السماء بالأرض، فى بداية الصلة الوثيقة بين عبد وربه. فهى على المستوى التاريخى، ليلة بدء نزول القرآن العظيم على قلب نبينا الكريم، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام. ونحن نعلم أن القرآن نزل بعد ذلك مفصلا بحسب الوقائع فى ثلاث وعشرين سنة. وقد جاء ذكر ليلة القدر فى القرآن فى أكثر من موضع، ففى سورة «الدخان»: «إنا أنزلناه فى ليلة مباركة» (الآية 3). وهذه الليلة تعد من ليالى شهر رمضان الكريم، كما جاء فى سورة «البقرة»: «شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن» (الآية 185)، وفى رواية ابن إسحاق أن أول الوحى بمطلع سورة «العلق»: «اقرأ باسم ربك الذى خلق». كان فى شهر رمضان، ورسول الله يتحنث فى غار حراء. وقد وردت فى تعيين هذه الليلة آثار كثيرة. بعضها يعين الليلة السابعة والعشرين من رمضان، فالسورة مكونة من ثلاثين كلمة، وقد جاءت «هى» برقم سبعة وعشرين! وبعض الروايات تعينها ليلة من الليالى العشر الأخيرة، وثمة من يطلقها فى ليالى رمضان كله. و«فى ظلال القرآن» يقول سيد قطب عن ليلة القدر: «والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشرى: وما أدراك ما ليلة القدر؟ وذلك دون حاجة إلى التعلق بالأساطير التى شاعت حول هذه الليلة فى أوهام العامة. فهى ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل القرآن. وإفاضة هذا النور على الوجود كله، وإسباغ السلام الذى فاض من روح الله على الضمير البشرى والحياة الإنسانية، وبما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصور وشريعة وآداب تشيع السلام فى الأرض والضمير. وتنزيل الملائكة وجبريل عليه السلام خصوصا، بإذن ربهم، ومعهم هذا القرآن، وانتشارهم فى ما بين السماء والأرض فى هذا المهرجان الكونى، الذى تصوره كلمات السورة تصويرا عجيبا». وإذا تجاوزنا المنظور التاريخى لهذا الحدث العظيم، وسمحنا لأهل التصوف أن يشاركونا بتأملاتهم فى طبيعة هذه البداية المدهشة للعلاقة الروحية بين العبد وربه. سنجد على سبيل المثال، الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، وهو يرى ليلة القدر تدور معنا على مدار العام كله! إذ إن لحظة التنوير الروحى، متاحة للإنسان طوال حياته، وفى جميع أوقاته، وما على المريد سوى إخلاص النية لله، وبعد ذلك قد تنفتح أبواب السماء كلها، ويتصل فى لحظة واحدة بمن هو أقرب إليه من حبل الوريد. فتتغير النظرة، وتستقيم الرؤية، وتنجلى البصيرة. «وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم» (فصلت: 35) وعندئذ نردد الكلمات التى علمها لنا المصطفى، صلى الله عليه وسلم، «اللهم إنك عفو تُحب العفو فاعفو عنا».