برحيل الشاعر اللبنانى الكبير جورج جرداق، 91 عامًا، مساء أول من أمس، تستطيع أن تقفل قوسًا فى حياتنا الغنائية الكلثومية، فهو آخر الشعراء الذين ردَّدت سيدة الغناء العربى كلماتهم، وهذا يعنى فى قاموس الحياة الفنية أنه قد دخل التاريخ الغنائى العربى من بابه السحرى. كل مَن يرصد هذا الزمن فنيًّا يُدرك أن ترديد أم كلثوم كلمات شاعر أو أنغام ملحن يعنى حصوله على وسام يظل لصيقًا به أينما حل، وكان جورج جرداق منذ عام 2008 بعد رحيل شاعر «أنت عُمرى» أحمد شفيق كامل، هو الوحيد الذى يستطيع أن يقولها صريحة مدوية أنا شاعر «هذه ليلتى». عمل فنى واحد يظل هو الأبرز ويحجب الرؤية عن كل الإبداعات الأخرى، تبدو بالفعل معضلة، يتكرر هذا المأزق أيضًا مع العديد من الأدباء والممثلين والمطربين عندما يتم اختصار كل عطائهم فى عمل فنى واحد حيث يُصبح النجاح الطاغى فى هذه الحالة نقمة على صاحبه، وكثيرًا ما كان شاعر السودان الهادى آدم، الذى غنَّت له أم كلثوم بعدها «أغدًا ألقاك» لديه عُقدة من تلك القصيدة إلى درجة أنه كان يرفض ترديدها فى أى محفل شعرى، بينما على الجانب الآخر كان جورج جرداق يتعامل مع هذا الموقف بقدر كبير من المرونة والتسامح بل والأريحية ويرى الجانب المشرق وهو أن الأقدار وضعت فى طريقه صوت أم كلثوم وموسيقى عبد الوهاب ملحنًا للقصيدة، لتصبح «هذه ليلتى» هى ليلته كشاعر ليمسك المجد من أطرافه، كثيرًا ما يتذكَّر بفخر تلك القصيدة رغم أن لديه العديد من القصائد الأخرى التى غُنت، كما أنه أصدر أكثر من ديوان، وكان يمارس على مدى سبعة عقود من الزمان الكتابة الصحفية، وكان معروفًا بعشقه للغة العربية وسيرة سيدنا علِى، كرم الله وجهه، كما أنه كان مصدر إلهامه الدائم هو جمال المرأة. كانت له صولات وجولات وأيضًا تراشقات مع الأخوين رحبانى «عاصى ومنصور» على صفحات الجرائد اللبنانية، ورغم ذلك كثيرًا ما كان ينتهى الأمر فى النهاية إلى لقاء يجمع ليلًا الثلاثة فى سهرة، ليواصلوا فى اليوم التالى تبادل الكلمات التى لها مذاق اللكمات. لم يمنح الإعلام المصرى هذا الشاعر الكبير ما يستحق من حفاوة حتى بعد الرحيل. ولم أجد فى المحطات الفضائية أو إذاعة الأغانى قصيدة «هذه ليلتى»، فقررت أن أستعيدها عبر «اليوتيوب»، عشت مع اللحن الرائع لمحمد عبد الوهاب، وتذكَّرت أيضًا لقائى مع هذا الشاعر الكبير فى بيروت قبل نحو أربع سنوات، سألته يومها: كيف كان لقاءك مع أم كلثوم؟ قال لى إنه فى مطلع الستينيات التقى بها فى فندق «الشيراتون» بالقاهرة عن طريق صديقه الكاتب الكبير مصطفى أمين، عندما دعاه لحفل عرس شرفته أم كلثوم بالحضور، فلم تكن أم كلثوم تشارك فى الغناء فى الأفراح، وفى هذا الحفل صعدت فتاة حسناء لترقص فبدأ جورج يتغزَّل فى جمالها بكلمات شاعرية رقيقة، فأعجبت أم كلثوم بلمحاته وخفّة ظله ومفرداته غير المسبوقة وسرعة بديهته، وطلبت منه المزيد، وانتهى اللقاء بأن اتفقت معه على أن تردد من أشعاره، واعتبر جورج أنها مجرد مجاملة رقيقة من الست. فوجئ جورج بعدها بسنوات بأن عبد الوهاب على الخط يتصل به حيث كان عبد الوهاب قد اعتاد فى تلك السنوات قضاء إجازة الصيف فى بيروت قبل أن يتحوَّل إلى باريس بعد اندلاع الحرب الأهلية هناك، قال له: أم كلثوم أوصتنى أن أطاردك فكان لا بد وأن يكتب لكنه لم يعثر على اللمحة التى تومض بداخله، وأخبر عبد الوهاب أن الإلهام يعانده فوجَّه له عبد الوهاب الدعوة بأن يأتى إلى الفندق وأمسك عبد الوهاب بالعود يدندن بأنغام لمجرد تحفيزه على الكتابة، وردد جورج «هذه ليلتى وهذا العود.. بث فيه من سحره داوود». وأسمع عبد الوهاب المطلع لأم كلثوم، فقالت لجورج هايل، ولكنى لا يمكن أن أغنى لاسم «داوود»، فقال لها «داوود» نبى يؤمن به المسلمون، كما أن عبد الوهاب غنَّى من قبل قصيدة يقول فى أحد أبياتها «ترنم بالمزمار داوود» أجابته أم كلثوم: الآن لا يمكن فى ظل الصراع العربى-الإسرائيلى، و«هذه ليلتى» قدمت عام 69 أى بعد هزيمة 67، والعلم الإسرائيلى به نجمة داوود، وأمام إصرار أم كلثوم أعاد كتابة المطلع، ليصبح «هذه ليلتى وحلم حياتى بين ماضٍ من الزمان وآت» لتصبح واحدة من أشهر وأرق قصائدها.. سألت جورج جرداق عن دواوينه، فقال لى: أصدرت بعضها، ولكن أغلب أشعارى تناثرت فى الصحف وأتمنّى جمعها فى كتاب!! قلت له ما أجمل ما قيل عن شعرك؟ أجابنى: عبد الوهاب وضع وسامًا على صدرى عندما قال عنّى فى أكثر من حوار صحفى «فى شعره من الموسيقى ما تعجز الأنغام عن اللحاق به». «فيك نطقى وهمسى فيك صمتى وغدى فى هواك يسبق أمسى/ نحن ليل الهوى ونحن ضُحاه/ سوف تلهو بنا الحياة وتسخر فتعالَ أحبك الآن أكثر (الله الله يا أستاذ جورج) كل ليل إذا التقينا صباح»!!