أعرف وبالتجربة معنى أن تكون مريضا فى حاجة إلى جراحة عاجلة وأنت لا تملك حق العلاج، أعرف جيدا معنى أن تتلطع على أبواب المسؤولين طالبا حقك فتقتلك البيروقراطية ببطء شديد. مشهد ما زال عالقا بذاكرتى لأب ينتمى إلى طبقة وسطى، كتب اسم طبيب فى نصف ورقة بيضاء قبل أن يرحل أملا فى أن يعطيه الحياة، جملة بقلم رصاص: «مجدى يعقوب.. هيوستن.. إنجلترا». مرت سنين طويلة ولم أتخيل أن يضعنى القدر فى أثناء عمل لجنة الخمسين مع صاحب الاسم داخل حجرة واحدة، وخارج أبوابها تحدث إلىّ لأول مرة بعربية ضعيفة اللكنة: «لماذا تدخن؟»، فأجبت بمشاعر مضطربة ومتوترة: «باحاول يا دكتور ابطّل»، قلتها بينما كنت أفكر أن كثيرا ربما تمنوا دقيقة مثل تلك، تترجم فى إنقاذ حياة شخص، كما تمنيت أنا قبل عشرين عاما. صحيح أن كثيرين قد ذهبوا لأن الوقت لم يسعفهم للاتصال بمن عنونت المقال بأسمائهم، لكنى على يقين أن هناك المئات أتيحت لهم الفرصة، فنجوا بحياتهم ويتمتعون بها الآن. هذا ما عرفته بالأرقام من مصادر مختلفة وما اختبرته شخصيا مع أبطال المقال. مدة الاختبار لم تتعدَّ مكالمتين هاتفيتين، فى المرة الأولى طلب منى أب لابن صغير أن أساعده فى إجراء جراحة قلب لطفله، لم أتواصل مع دكتور مجدى يعقوب وفضلت الاتصال بالدكتورة أنيسة حسونة (المدير التنفيذى لمعهد مجدى يعقوب بأسوان) التى تعرفنى جيدا، وقد عملنا معا من قبل. لكن المعرفة السابقة هنا لم يكن لديها موضع فى حديث أو أولويات مديرة محترفة تعتمد على نظام مؤسسى صارم ومنجز فى الوقت نفسه. طلبت منى أن أسلك «الطريق الطبيعى»، راقب المصطلح بين القوسين جيدا الذى استخدمته هى، الاتصال بالطبيب المختص بتلقى الحالات فى المستشفى وهو سيتخذ اللازم. تصورت وقتها أننى سأواجه حزمة من الإجراءات البيروقراطية المعتادة فى مصر. اتصلت بالمستشفى وتحدثت إليهم عن الحالة، فطلبوا منى إرسال تفاصيل الطفل وهاتف أهله، ولم تمر سوى أيام حتى كان الطفل داخل المعهد بعد أن اتصلت به الإدارة، حيث أجريت له الجراحة بنجاح.. تكرر الأمر فى حالة أخرى، وقد عرفت أن ما هو مطلوب منى لا يزيد على إرشاد من يحتاج إلى الطريق دون أى تدخل منى، فقط أقول «اتصل بهذا الهاتف». سألت أهل المرضى عن انطباعهم، فأخبرنى والد أحد الأطفال شاكرا: «عاملونا كمستشفى خاص راقٍ وكأننا كنا ندفع ثمن العلاج». أنيسة حسونة (المديرة الكفء) ود. مجدى يعقوب (الطبيب الموهوب) نجحا فى أن يقدما ما يتجاوز ثقافة العمل الأهلى المعتادة فى مصر، التى ارتبطت عادة بتقديم مساعدة المحتاجين بشكل تقليدى لسد احتياجات من طعام أو شراب أو ملبس، أو بهدف نيل الثواب دون بحث عن مدى كفاءة الفعل وتأثيره، أو التحرك بمنطق يغيب عنه احترام من «يتلقى المساعدة» كونهم يتلقون المئات من الطلبات وتلك الإمكانات المتاحة لديهم. أو التورط فى بناء شىء مترهل ومتأخر فى التعامل مع الحالات.. فحينما يخبرك مريض أنه تم علاجه وكأنه قد دفع ثمن العلاج فلتعلم جيدا أنك ترى شيئا مختلفا. وحتى تدرك الفرق فعليك أن تعرف أن مجدى يعقوب وفى كل مرة كان يزور فيها مصر كان يتحرك بهدوء نحو مشروعه، لم يصنع جلبة أو صخبا حوله، ولم يأتِ إلى مصر بمنطق نرجسى «أنا من حزت مكانة دولية فأعطونى شيئا كونى الأكثر تفوقا أو فهما أو إدراكا»، لم يخبرنا وينظّر علينا كيف تدار الأمم، ولم يتعامل معنا بمنطق الشخصية الفذة التى تشكو عشوائيتنا وبَلادتنا وبيروقراطيتنا وتأثير معوقات ذلك على مشروعه، بل تحرّك فى صمت وصنع إنجازه وظل صامتا. أما كفاءة أنيسة حسونة فى الإدارة فلم تكن مرتبطة بالمفهوم التقليدى الدارج لدينا فى مصر، فهو أمر -دون مبالغة- فى حاجة إلى الدراسة والاستفادة منه، لاحظ أنها خريجة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وعملت بعدها لمدة أربعة عشر عاما فى مجلس الوحدة الاقتصادية العربية –جامعة الدول العربية. ثم شغلت منصب مدير عام «منتدى مصر الاقتصادى الدولى». وها هى اليوم نجحت فى وضع نظام مؤسسى محترف لمؤسسة طبية تقوم على التواصل الراقى وتحطم البيروقراطية والتأخر والواسطة، وتطيح بأسطورة التخصص فى المجال لصالح التفوق والإبداع والمؤسسية فى الإدارة. يمكنك أن تعرف ذلك فى سرعة الاستجابة من قبل الإدارة للحالات، والاستراتيجية الناجحة فى تشجيع التبرعات الوطنية. قد تلمح ما يتجاوز المتعارف عليه فى ثوانٍ إعلانية تخلصت من منطق التسول، أو تقديم مرضى يستجدون عطفا وإحسانا، كل هذا غاب لصالح التحفيز وتشجيع إشراك الناس فى المسؤولية بمنطق الأمل، ابتسامات كثيرة وطاقة تفاؤل أكثر لم نعتَدها فى مثل تلك الإعلانات الشبيهة بالبكائيات، وتشجيع المتبرع لأن يكون شريكا فى منظومة نجاح يروى طاقمها -من أصغرهم إلى أكبرهم- دورهم فيها. هذا ما تحتاج إليه مؤسساتنا.. «مزيج الكفاءة والموهبة والإدارة والأمل».