أخطأ زميلنا المهذب طارق الشناوى بارتكابه خطيئة ال«بين بين» فى نقده لوزير «الانتقاء» الدكتور جابر عصفور، إذ كان يجب أن يكون أشد هجومًا وأعلى صوتًا، ويكمل حملته بقوة، فلا حياء فى النقد، لكنه شخص مسالم، وهادئ، ولا يذهب أبدًا فى خلافاته إلى الحد الأقصى، وربما يكون هذا الهدوء هو الذى استفز الدكتور عصفور ودفعه إلى تقديم بلاغ مؤسف ضد ناقد لم يستخدم سوى الكلمات! طبعًا عصفور لم يكفر، ولم يرتكب جُرمًا، فهو لم يحرق سيارة طارق، ولم يقذفه بزجاجات المولوتوف، أو يوعز إلى جنود حراسته بصفع المعارضين وإطفاء السجائر فى وجوههم، فقط استخدم حقه القانونى، وقدم بلاغًا إلى النيابة يتهم فيه الكاتب بالسب والقذف! المسألة بسيطة، مجرد «تاء مربوطة» سقطت من «رجل البلاغة»، فأصبح «رجل البلاغ»، قد يكون طارق أوجعه بكلمات خارج المقال، فلطالما عارضه فى ندوات واجتماعات، واحتج على تصرفات، وأنتم تعرفون أن التراكم الكمى يؤدى إلى تغير كيفى، فلما تراكمت «عبارات الانتقاد» من جانب طارق، دخل عصفور «دائرة الانتقام»، وأعلن عن سلاح جديد من أسلحة الردع فى الحظيرة. قرأت مقال طارق أربع مرات، ولم أجد فيها سبًّا ولا تشهيرًا، مجرد سرد لمواقف معروفة نشرتها الصحف عن قرارات وتصريحات «وزير الانتقام»، مثل أسباب إقالة أمين المجلس الأعلى للثقافة، وعلاقة هذا القرار بأزمة الجائزة التى أعلن عصفور أنه اعتذر عنها، وهو يعلم بقرار استبعاده من قائمة المرشحين، ومثل تسرع الوزير فى إقالة رئيس المركز القومى للسينما، وهو حر يتسرع كما يحب ويقيل كما يشاء، لكنه ليس حرًّا فى توجيه اتهامات جزافية دون تحقيق، خصوصًا أن المتهمين أسماء معروفة ولها تاريخ ثقافى ووظيفى فى الوزارة، ولم يثبت حتى الآن ارتكابهم جرائم إهمال أو فساد مالى، لكن الوزير أسرف فى تصريحات الإدانة والتشهير قبل العرض على الجهات القانونية المختصة، وصدور أى قرارات نهائية! طارق لم يسب عصفور، ولم يمس شخصه، فقط طرح تساؤلات وتلميحات تتعلق بمنصب الوزير، ورأى (كما رأيت ورأى غيرى) أن الناقد الأكاديمى المتيم بالسلطة والمتعلق بأعتابها لا يصلح للمنصب، ومع ذلك يبذل جهدًا لتمهيد الأجواء لبقائه فى المنصب عن طريق تصفية خصومه والمختلفين معه، ومهادنة الشخصيات القوية التى لا يستطيع مواجهتها الآن! لقد قلت وقال غيرى كلامًا قريبًا من هذا، وانتقدنا أسلوب الحظيرة الذى تعلمه عصفور خلال عمله الطويل مع فاروق حسنى، فلماذا سكت عصفور على الجميع، واشتكى طارق؟، وهل يتخذ من هذه الطريقة أسلوبًا جديدًا فى التعامل مع المثقفين وكتاب الرأى بالشكاوى والبلاغات، والتهديد بالسجن؟ لا أنتظر إجابة يا دكتور جابر، أتمنى أن تنتبه لخطورة هذه الخطوة، وأن تتراجع عنها فى أسرع وقت، صحيح أنها ليست كفرًا ولا تجديفًا، ولا خروجًا عن القانون، لكنها تمثل انتهاكًا صارخًا لفضاء حرية النقد والتعبير، وتقدم نموذجًا سلبيا لوزير ثقافة يطارد المثقفين بالبلاغات وتحقيقات النيابة، ليس بسبب فساد مالى أو إدارى، ولكن بسبب ما يكتبونه من نقد لسياسات وقرارات، مهما كانت درجة الخلاف حولها، ومهما كانت قسوة اللغة المستخدمة. ثم يا دكتور كيف تتجاسر وتتحدث عن حرية بلا حدود فى الإبداع والتعبير، ولا ترى مشكلة فى المساس بزعماء وأنبياء، وتجاهر بالموافقة على عرض أفلام سينمائية تجسد الأنبياء (وهى قضية صعبة ومثيرة للجدل) ثم تبدى هذا الانزعاج من نقد أدائك الوظيفى، والاحتجاج على قراراتك؟ أوقف هذه المهزلة يا دكتور، واعتذر عنها، وتعهد علنًا بأنك لن تعود إليها، وإذا لم تبادر طوعًا وفهمًا وتفهمًا، فأنت لست خصمًا لطارق الشناوى وحده، لكنك ستكون خصمًا لكل مثقف حر يرفض ممارسات التدجين، وألاعيب التستر بالقانون، لإجبار المثقفين على الرضوخ، والانضباط وفق قواعد الحظيرة. ■ ■ ■ هذا المقال تمت كتابته قبل سحب الدكتور جابر عصفور البلاغ.. لكن مضمونه سار كرسالة تحذير لكل من يخالف قواعد حرية الرأى والتعبير.