عندما بزغ نجم سعد زغلول فى بدايات القرن العشرين، لم يكن ذا صولجان وهيبة يخشاهما الناس، بل كان رجلا يحترمه ويحبه الجميع حتى لو اختلفوا معه أو حوله أو حول ما يأتى به من سلوك، ولكن هذه الهيبة وذلك الصولجان يحيطان بالمرء عندما يأتى بأعمال يقدرها البعض بأنها أعمال بطولية، فيظل الشخص كامنًا فى وظيفته أو فى مخبئه البيروقراطى، حتى تمنّ الأقدار بأحداث عظيمة، وتشتبك هذه الأحداث وتتقاطع مع رغبات الشعب، ويظهر ذلك الشخص من الصفوف الخلفية أو الأمامية فى المشهد، فتحدث حركته خلخلة كبيرة وتغييرًا ذا شأن عظيم، ويبدأ الجميع فى الالتفات إلى هذا الشخص، وقراءة شخصيته بأثر رجعى ضمن أحداث قديمة، هكذا فعلنا مع الشخصيات التى ظهرت على مسرح التاريخ السياسى فى مصر منذ محمد على الكبير مرورًا بأحمد عرابى ومصطفى كامل ومحمد فريد ومصطفى النحاس وجمال عبد الناصر، حتى الرئيس عبد الفتاح السيسى، ويعتبر سعد زغلول مجسدًا لحالة الوله المصرى بزعيم، للدرجة التى تسير الروايات والحكايات عنه بين الناس بروايات متعددة، فللرواية أصل واحد، لكن لها خيالات وتأويلات وتفسيرات عديدة، وكما كان سلفه أحمد عرابى مثيرًا للجدل، وكذلك مصطفى كامل، كان هو، واحتدت حوله الاختلافات، ولكنه كان يحظى بصفة الزعيم الشعبى الذى تنشأ حوله الأغانى والأناشيد والقصص. إنه زعيم ثورة أبدعت مناخًا غير مسبوق فى الأمة المصرية، ودشّنت قيمًا وأحداثًا لا مثيل لها فى التاريخ المصرى. إنه الزعيم الذى كُتب عنه أجمل وأهم الروايات والأشعار والمسرحيات المصرية، ف«عودة الروح» لتوفيق الحكيم، و«قنطرة الذى كفر» لمصطفى مشرفة، وثلاثية «بين القصرين» لنجيب محفوظ، و«الفيلق» لأمين عز الدين، تعتبرها وغيرها من روايات من كلاسيكيات الأدب المصرى والعربى، وهذه الروايات عملت على تخليد سيرة وذكرى سعد زغلول، لذلك عندما رحل فى أغسطس عام 1927 انفجرت الجماهير العاشقة لسعد زغلول وسيرته وطيفه فى الشوارع، وكتب عنه الشعراء الكبار مثل أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وعباس محمود العقاد وغيرهم، حتى الشباب الوفدى دبج قصائد بالغة الأثر والتأثر، مثل قصيدة الشاعر الشاب سيد قطب الذى كتب قصيدة «على قبر سعد زغلول»، وفى ذلك الوقت كانت صحيفة «البلاغ الوفدية» هى الجريدة التى تزود عن سعد وذكراه وتخليده، وكانت الجريدة قد نشرت مناوشات حول القرارات التى اتخذتها الحكومة لتخليد سعد، فقد كلفت المثّال المصرى مختار ليصنع تمثالين، وأتمت هدم المنزل الملاصق لبيت الأمة، وراحت تشرع فى هدم البيتين الآخرين لبناء الضريح محلهما، وكانت الإجراءات اللازمة لنقل ملكية هذا العقار الموقوف، وبالفعل وضعت الخطة لتخليد سعد، وإزاء ذلك بدأت بعض الدوائر الإعلامية آنذاك تقول بأن الإنجليز يعارضون فكرة تخليد وتكريم سعد، ولكن بعد ترحيب الصحف الإنجليزية بخبر هذا التكريم انتفت الفكرة تمامًا، واطمأنت النفوس، كما تقول صحيفة «البلاغ». حين ثبت عدم صحة ذلك النبأ، بل كتبت صحيفة «الإجبشيان غازيت» تقول: «إن شراء بيت سعد باشا المملوء بالتذكارات للأمة، اقتراح جليل ولائق بالرجل الذى وضع فيه خططه للشعب، كما أن فيه درسًا خالدًا للذين يأتون بعده»، وكان جعفر والى باشا وزير الداخلية له تصريحات تقول «إن كل الإجراءات التى قررتها الحكومة لتخليد ذكرى الزعيم العظيم كانت بالإجماع من الوزراء أجمعين، سواء منهم الموجودن هنا أو الموجودون فى أوروبا وأنها لم تلق أى ملاحظة أو اعتراض من أى ناحية»، إذن مَن هم الذين أثاروا أمر الاعتراض، وفى العدد ذاته من صحيفة «البلاغ» يتضح مَن المقصود بعرقلة التكريم، وتكتفى الجريدة بوصفهم بالرجعيين، وتقصد بالرجعيين كتّاب وصحفيى صحيفة «السياسة»، والذين كانوا خصومًا ألداء لسعد ولسياساته، ورغم أن صحيفة «السياسة» برئاسة تحرير الدكتور محمد حسين هيكل كانت قد أبّنت سعدًا، وكتب بعضًا من المتابعات بعد رحيله، فإن ذلك كان فاترًا، ولا ينسى الخصومة السياسية، وربما كانت هناك خصومات إنسانية واجتماعية، والذى يؤيد أن يتأكد من ذلك عليه أن يقرأ الخطب التى كان يطلقها عبد العزيز فهمى، رفيق سعد زغلول فى منفاه، والذى انقلب عليه فى ما بعد، ترأس الحزب الذى ناصب سعدًا العداء على طول الخط وهو حزب الأحرار الدستوريين، لذلك كان التأبين شكليا، ولا يضمر المحبة الواجبة تجاه سعد، ولا يكن ذلك الاحترام الذى تنطوى عليه قطاعات وفئات الشعب الاجتماعية ولم يجدوا وسيلة لمحاربة المغفور له سعد باشا -كما تقول جريدة «البلاغ»- بعد موته إلا بمعارضة القرارات التى أصدرتها الحكومة لإقامة تمثالين وبناء ضريح له، فجعلت جريدتهم تنشر فصولًا طويلة حول سخف وهراء تدعو فيها إلى عدم تشييد التمثالين والضريح، وإلى ترك تخليد ذكرى الزعيم للأمة وحدها، وتستطرد «البلاغ» عن صحيفة «السياسة»: «وقد أعماها الجهل والغرض عن رؤية التماثيل التى تقام فى البلاد الغربية كل حين للقواد والزعماء والساسة وضحايا الحرب وغيرهم ممن حققوا مصلحة عامة وقدموا لبلادهم نفعا»، ولا تتوقف «البلاغ» عن كشف الحملة الشعواء التى تقودها، فتكشف فى العدد الصادر فى 16 سبتمبر 1927عن زيف وكذب وخداع -حسب تعبيرات صحيفة «البلاغ»- خصومهم الألداء، عندموا رثوا سعدًا، ووصفت دموعهم بدموع التماسيح، وأشاعوا شائعة أن ثروت باشا -المقصود به عبد الخالق ثروت رئيس الحكومة آنذاك- غير راضٍ عن القرارات التى اتخذها الوزراء فى غيابه، ولكنه صرّح بعكس ذلك تماما، بل كان مرحبًا بفكرة التخليد والتكريم، وبعيدًا عن كل ذلك فمعنى التكريم هو إحياء لكل أفكار ونضالات ومواقف سعد زغلول، التى كانت على عداء كامل مع أفكار ومواقف حزب الأحرار الدستوريين، الذى وقف يناصب فكرة التخليد بضراوة، وما عدا ذلك راحت صحيفة «البلاغ» الوفدية تحيى ذكرى سعد بكل الطرق المتاحة لهم.