هكذا اعترفت وسائل الإعلام الإسرائيلية نقلاً عن مراسلين عسكريين بارزين يرافقون حرب إسرائيل الإجرامية ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة، ومن هنا جاء اللجوء إلى سياسة «الأرض المحروقة» والقصف العشوائى ضد المدنيين والمستشفيات وإبادة أحياء سكنية بكاملها كما هو حال «حى الشجاعية» وغيره، وإجبار عشرات الآلاف على اللجوء، لقد وصل عدد الشهداء إلى 950 شهيدا قبل الشروع فى الهدنة الإنسانية المؤقتة بمناسبة عيد الفطر المبارك وتجاوزت أعداد الجرحى والمصابين ستة آلاف، كثير منهم من الأطفال والنساء والشيوخ. كل هذه الجرائم الإسرائيلية جاءت كرد فعل مباشر للذعر الذى أصاب قادة العدو الصهيونى من الصمود البطولى أمام الغزو البرى وفشل العدوان الجوى والبحرى عن تحقيق الأهداف، وهم الآن وبالذات داخل الحكومة المصغرة فى إسرائيل المعنية بقرار الحرب باتوا عاجزين عن الخروج من الورطة أو ما يسمونه ب«مستنقع غزة،» بعد أن صدموا من الحقيقة المؤلمة التى وضعتهم أمام مأزقهم التاريخى وهى أن ما يحدث فى غزة ليس قتالاً من طرف واحد ولكنه حرب حقيقية يخوضها الطرفان: إسرائيل والشعب الفلسطينى ومقاومته الباسلة فى غزة التى أفشلت أهداف العدوان فى تدمير الأنفاق على طول الحدود بين قطاع غزة وإسرائيل التى توظف لتهديد الأمن الإسرائيلى، أو تدمير مخازن الصواريخ الفلسطينية لشل يد المقاومة وتحويل قطاع غزة إلى قطاع لا يعرف غير الاستسلام. فعلى الرغم من كل الترسانة العسكرية المتفوقة، وما تملكه إسرائيل من أقمار صناعية وسلاح جو ليس له مثيل فى المنطقة وما تتمتع به من «قبة حديدية» تضم أرقى أنواع الصواريخ المضادة للصواريخ أمريكية وإسرائيلية الصنع فإن كل هذا التفوق وكل هذه الترسانة العسكرية لم تستطع اكتشاف مخازن الصواريخ، ولم تستطع تدميرها أو تدمير الأنفاق أو صد صواريخ المقاومة التى وصلت إلى عمق الجبهة الداخلية الإسرائيلية فى تل أبيب ومطار بن جوريون، وأجبرت قادة الكيان على اللجوء إلى المخابئ وعقد اجتماعاتهم داخلها ربما للمرة الأولى من تاريخ الصراع العربى-الصهيونى. والآن يحاولون إنقاذ أنفسهم من خلال أدوار محمومة يقوم بها أصدقاؤهم لتأمين خروج مشرف لهم من ورطة غزة. اجتماع باريس الذى حضره وزراء خارجية فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا والاتحاد الأوروبى وإيطاليا إضافة إلى وزيرى خارجية قطر وتركيا انطلق مما أسماه ب«الواقعية السياسية» ومحورها حماية أمن إسرائيل. قبل هذا الاجتماع وقبل أن يقوم وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى بزيارتين للقاهرة وتل أبيب بحثا عن حل ينقذ إسرائيل كان حريصا على أن يبقى بعيداً عن سخونة الأزمة عندما كان يعتقد أن الموقف فى صالح إسرائيل. لم يتحرك كيرى ولا رئيسه أوباما لوقف العدوان لسبب واضح هو أنه كان يدرك أن إسرائيل فى أمان، ووقتها كان يبرر العدوان ويقول إن إسرائيل من حقها أن تدافع عن نفسها ضد صواريخ المقاومة، الآن يسعى كيرى للوصول إلى هدنة طويلة هدفها: «إخلاء غزة من السلاح مقابل إنهاء حصار القطاع وإعماره». المطلوب إذن هو تحويل قطاع غزة إلى حالة من الهدوء تشبه حال الضفة الغربية التى تنشط فيها قوات الاحتلال الإسرائيلية بالتضامن مع الأمن الفلسطينى لاحتواء كل أشكال التوتر داخل الضفة وإبقاء مناخ عملية التسوية مسيطرا، وهو المناخ الذى مكَّن الإسرائيليين من مواصلة مخطط الاستيطان والتهويد لأراضى القدس والضفة الغربية لتفريغ خيار «حل الدولتين» من مضمونه وفرض الحل البديل وهو: «دولة واحدة لشعب واحد» ويقصدون أن تكون فلسطين كل فلسطين وطنا للشعب اليهودى وحده، وأن تكون دولة يهودية يتمتع فيها كل يهودى فى أى مكان فى العالم بحق المواطنة فيها على حساب الشعب الفلسطينى الذى عليه أن يرضى باللجوء الدائم حيث هو وأن يبحث له عن «وطن بديل». صدمة إسرائيل الكبرى ليست فى الحرب الحقيقية بينها وبين المقاومة الفلسطينية التى تدور فى غزة، بل فى الضفة الغربية التى هبت للدفاع عن غزة لوقف شلالات الدم المتدفقة هناك. هل يمكن أن تحدث المفاجأة الصادمة؟ هل يمكن أن تتفجر انتفاضة فى الضفة الغربية؟ السؤال هو ما يشغل عقل قادة الكيان الآن فهم انتقلوا بالهجوم على غزة هروبا من أن تؤدى المواجهات العنيفة بين الشعب الفلسطينى فى القدسالمحتلة ومعظم مدن وقرى الضفة، اعتراضا على الجريمة الوحشية التى ارتكبها ستة وحوش آدمية من اليمين الدينى المتطرف بحق الطفل الفلسطينى محمد حسين أبو خضير ابن حى شعفاط بالقدس الذى أحرقوه حيا، إلى اندلاع انتفاضة ثالثة فى الضفة الغربية. تصوروا بهروبهم بالمواجهة من الضفة إلى غزة أنهم يتفادون تفجير أسباب حقيقية للانتفاضة الموعودة، ولكن ها هى حربهم القذرة فى غزة تقودهم رغم أنفهم ورغم أنف كل أباطرة التسوية المذلة وتيار الاستسلام، ما ظلوا يتخوفون منه ويتحسبون له، وهو أن تنتفض الضفة، وأن تثور ضد ما كانوا يعتقدونه «مواتا سياسيا»، فكل المخاوف تتحقق: عزة ترد الصاع صاعين وتهاجم فى عمق الكيان من الجو بالصواريخ ومن البحر بعمليات ناجحة داخل الكيان ولا تقبل بالدفاع خيارا واحدا، الشارع العربى يستيقظ من غفوته على حقائق غيِّبت عنه قسرا، أما الأهم فهو أن انتفاضة الشعب الفلسطينى لم تعد وهما، لكنها تتحول رغم كل الإرادات العفنة إلى واقع لا مهرب منه.