لسنا فى حاجة ملحة إلى نقول بأن إحدى أدوات معرفة المجتمع واكتشاف قسماته وملامحه، هو الأدب المتعدد الأجناس، مثل الشعر والمسرح والرواية والقصة، وكثيرون يعتمدون على الأدب أكثر مما يعتمدون على المؤرخين، فالأدب قادر على تصوير وتأمل وشرح حالة المجتمع فى مرحلة تاريخية محددة، مثل رواية «عودة الروح»، التى كتبها توفيق الحكيم فى ثلاثينيات القرن العشرين، وتظل صورة حيّة ونابضة لما حدث فى المجتمع المصرى فى أثناء ثورة 1919، وكذلك ثلاثية نجيب محفوظ، فلا يمكن التعرف على ثورة 1919 بشكل اجتماعى وإنسانى دونما الرجوع إلى هذين العملين الأدبيين، وبالطبع هناك مئات الأعمال الأدبية التى تعكس صورا حقيقية وصادقة عن المجتمع المصرى فى كل مراحله، ومن بين هؤلاء الكتّاب الذين أثروا الحياة الثقافية والأدبية والفنية فى مصر، الكاتب والمسرحى العظيم محمد تيمور، ابن العلّامة الكبير أحمد باشا تيمور، وشقيق الروائى والكاتب محمود تيمور، ويعتبر محمد تيمور الذى ولد فى عام 1892 ورحل عام 1921 هو رائد القصة القصيرة فى مصر والعالم العربى بلا منازع، رغم أن الباحثين، وعلى رأسهم المؤرخ الأدبى محمد يوسف نجم نسب الريادة إلى ميخائيل نعيمة، وقال إنه كتب القصة الناضجة «العاقر» فى عام 1914، وأن محمد تيمور كتب قصته «فى القطار» عام 1917، ولكننا عثرنا على قصة مجهولة تماما كتبها محمد تيمور عام 1913، وهذا ما سنتحدث عنه فى مقام آخر، المهم أن محمد تيمور كتب قصته الرائعة «رمضان فى قهوة متاتيا»، معبرا عن المجتمع المصرى بدقة فنية فى ذلك الوقت، أى عام 1918، وتعود نشأة قهوة «متاتيا» إلى سبعينيات القرن التاسع عشر، بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، وكان الخديو قد قام بتكليف المهندس الفرنسى هوسمان بتنظيم ميدان العتبة، ولأسباب غامضة تحول التكليف إلى المهندس الإيطالى «متاتيا» الذى أسس ميدان العتبة ليكون أجمل منطقة فى القاهرة، وكانت تتوسطه الأوبرا التى احترقت عام 1975 وما زالت أسباب هذا الحريق غامضة أيضا، وأنشأ عمارة ضخمة سميت باسمه، وأسس تحت هذه العمارة القهوة التى أصبحت أشهر مقهى فى القاهرة، وربما فى العالم العربى، حيث كان يجلس عليها أساطين الأدب والفكر والسياسة، وهناك ألقى الشيخ جمال الدين الأفغانى أول خطاب سياسى له، وكان يرتاد هذا المقهى الشيخ محمد عبده وعبد الله النديم ومحمود سامى البارودى والزعيم أحمد عرابى وكل من له علاقة بتاريخ الفكر والإبداع المصرى الحديث، ولكن مصير هذا المقهى كان دراميا بعد الزلزال الذى تعرضت له مصر عام 1992، ثم أزيلت العمارة والمقهى بكل ما تحمله من تراث وتاريخ لحساب نفق الأزهر، لتكون نهاية أشهر مقهى فى الشرق الأوسط، ويبدأ تيمور قصته الدّالة والمعبرة عن مجتمع ما قبل ثورة 1919، واصفا المقهى: «خلف المحكمة المختلطة وأمام بنك الكريدى وفى كتف دكان مدكور وقفت قهوة متاتيا وقفة الرجل الديمقراطى، متهللة الوجه باسمة الفم، تجمع من الناس الغنى والفقير والرفيع والوضيع والمتكبر والوديع.. ما أجمل قهوة متاتيا وهى تنظر إلى حديقة الأزبكية نظرة الهازئ تقول لها وهى تبتسم: أنت شاسعة الأرجاء كثيرة الأشجار طويلة الطرق والدروب، وأنا صغيرة وحقيرة، وإن شئت فأنا أيضا غير نظيفة، ولكنى أضم تحت لوائى عددا من الناس لم يطأ أرضك بعد ربعه ولا خمسه، فأنا أكبر منك مكانة وأرفع مقاما»، وهكذا يفخر المقهى بنفسه، ويزهو برواده، ويستطرد تيمور فى وصف جمال المقهى وفاعلياته وأهميته وضيوفه ورواده ومرتاديه، والأبواب التى يقف عليها «إسرائيلى» -فى الطبعة الأولى عام 1927- أمام خوانه الصغير بعد أن وضع عليه قدرة الفول المدمس يحف بها البصل والخيار والقوطة الحمراء والفجل والكرات، ويستعرض الكاتب رواد المقهى وجميعا من كتّاب وفنانين وموظفين، الذين يجذبهم عالم هذا المقهى الحرّ، والذى تحدث فيه كل الفاعليات دون مطاردات أو مضايقات تذكر من أمن أو بوليس، ولكن هذه الفعاليات يختلف معناها فى رمضان، ويرصد تيمور بعض المشاهد فى رمضان على المقهى، فيصف أحدهم لرجل من لابسى الجبّة والقفطان ناعس الجفون جهم المحيا ممسكا بمسبحة طويلة عريضة يقتل بها الوقت، هذا هو منظر الشيخ الصائم الذى ضاق فى عينيه منزله، فأتى ليقضى وقته فى القهوة بلا أجر ولا ثمن، وهناك رجل أقل منه عبوسا، ويجلس بجواره، يظهر أمام الناس بمظهر الصائم حتى إذا جاع دخل القهوة سرا وانزوى فى ركن من أركانها يشرب البيرة ويأكل الفول، ويقول عنه تيمور «هذا هو منظر الرجل الصائم جهارا والفاطر سرا»، وهناك الرجل الفقير الضعيف المريض الذى أتى القهوة ليستنشق هواء حديقة الأزبكية ويشرب فنجان قهوة وكوب ماء وكل هذا بقرش تعريفة فقط، ويبرر تيمور ظروف هذا الرجل الذى دفعته إلى الإفطار، ولم يخش الناس وشرب القهوة والماء أمامهم وهو يقول لنفسه: «الله يعلم أنى مفطر فلتعلم أيضا الناس لأنى لم أفعل ما يغضب الله»، ويظل تيمور يستعرض صوره ومناظره التى تعيش على المقهى فى رمضان، ليعطينا عالما حيّا وحقيقيا فى هذا المقهى التاريخى، الذى أزيل ولكن ذكراه خالدة فى هذه القصة، التى لا تصف جمال المقهى وحيويته فقط، بل يرصد المجتمع المصرى الحرّ فى ذلك الوقت، عندما كانت مصر مقبلة على ثورة عظمى هى ثورة 1919، والواضح أن المقهى لم يتعرض لهجمات بوليسية، لأن هناك مفطرا يجاهر بإفطاره أمام الناس، وأحدهم يقول إذا كان الله يعرف علّتى فهل أخشى الناس، وبهذه القصة يعطينا تيمور دليلا قويا على أن المجتمع المصرى يستطيع أن يعيش حريته بكل الصور متى أراد ذلك، ما دامت هذه الحرية لا تؤذى أحدا.