ونحن فى سن الطفولة، حكى لنا ضمن الحكايات التى كنا نسمعها فى كتاب الشيخ سعيد، وفى مدرسة قحافة الابتدائية وفى حارة الحاج بسيونى، حكاية «الجراحة الربانية» التى أجريت للرسول عليه الصلاة والسلام، قيل لنا: إن الله عز وجل عندما اختار سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام للنبوة كان عليه أن ينزع من صدره الأمراض البشرية، مثل الحقد والغل والكراهية والحسد، وغير ذلك، فأرسل إليه ملائكة من السماء وقاموا بشقّ صدره، ونزعوا من داخله قطعة أو كرة سوداء وألقوا بها، ثم قاموا بغسل صدره من الداخل بماء وملح ثم بماء زمزم، ثم أغلقوا صدره مرة أخرى وأذكر أن عمى محمد سلطان زوج عمتى هنية (كنا نقول له يا عمى) وكان يعمل مدرسا بمدرسة قحافة الابتدائية، كان يقف ويمثّل لنا بيده كيف فتحوا صدر النبى، ثم كيف وضع جبريل يده داخل صدر النبى وأخرج قلبه، نعم قلبه. فى كل المرات التى حكى لنا عم محمد سلطان العجمى هذه الحكاية كان يقول لنا إنهم أخرجوا قلبه، وكان يؤكد أن الذى أجرى «الجراحة الربانية» سيدنا جبريل عليه السلام، وعم محمد كان يؤكد كذلك، وهى دى «العلقة» يا أولاد، وقام سيدنا جبريل برميها بعيدا، ثم قام بغسل قلب النبى فى طشت به ماء وملح، وبعد أن نظّفه تماما قام بشطفه بماء من بئر زمزم، ثم جفف قلب الرسول وأعاده مرة أخرى إلى صدره وأغلق مكانه. عم محمد سلطان قال لنا إن هذه «العلقة» هى مصدر الشر والخطيئة فى الإنسان، هى التى تجعل الإنسان يخطئ ويقع فى الرذيلة، وأن الله سبحانه وتعالى بهذه الجراحة أراد أن ينزّه نبيه ويعصمه من الخطأ والزلل. عم محمد كان يستخدم فى حكايته مفردات وصياغات أقرب إلى ثقافتنا كأطفال ولثقافة القرية التى كنا نعيش فيها، وثقافة فترة الستينيات عندما كنا أطفالا، وثقافته هو كمدرس ابتدائى فى مدرسة بإحدى القرى التابعة إلى مدينة طنطا، وأذكر أنهم قالوا: إن عم محمد سلطان من عائلة العجمى ببلدة أو قرية تسمّى طوخ مزيد، قيل لنا أيامها إنها تتبع محافظة الدقهلية، بالقرب من مدينة المنصورة، اتضح فى ما بعد أنها من قرى مركز مدينة السنطة بمحافظة الغربية. عندما عدت إلى مصادر «الجراحة الربانية» اكتشفت أنها ليست بالسهولة التى سمعناها، وأن الرواة اختلفوا فى كل شىء، اختلفوا حول عمر النبى محمد عند إجراء الجراحة، والمكان الذى أُجريت فيه الجراحة، وعدد الذين أجروا الجراحة، وجنس الذين أجروا الجراحة، واسم الذين أجروا الجراحة، وحالة الرسول فى أثناء إجراء الجراحة: هل كان نائما؟ مستيقظا؟ واختلفوا حول التوقيت الذى أجريت فيه الجراحة: نهارا، ليلا، عصرا، فى فترة القيلولة؟ وحول الأدوات المستخدمة فى الجراحة، كما اختلفوا كذلك فى الشهود الذى شهدوا الجراحة. البداية ابن حنبل بداية نشير إلى أن هذه الجراحة الخطيرة، والتى تسمى هذه الأيام ب«جراحة القلب المفتوح»، وصلتنا برواية أنس بن مالك، وتبدأ الواقعة برواية انفرد بها أحمد بن حنبل فى مسنده الشاميين (ح رقم 16990)، والدارمى فى المقدمة (ح رقم 13): «حدَّثنا حيوة ويزيد بن عبد ربه، قالا: حدثنا بقية، حدثنى بحير بن سعد عن خالد بن معدان، عن ابن عمرو السلمى، عن عتبة بن عبد السلمى، أنه حدّثهم: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: - كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ - قال الرسول: كانت حاضنتى من بنى سعد بن بكر (يقصد مرضعته حليمة)، فانطلقت أنا وابن لها (تذكروا كان مع ابن حليمة) فى بهم لنا، ولم نأخذ معنا زادا، فقلت: يا أخى اذهب فتنا بزاد من عند أمنا، فانطلق أخى ومكثت عند ألبهم، فأقبل طائران أبيضان كأنهما نسران (تذكروا: قال طائران وليس ملائكة)، فقال أحدهما لصاحبه: - أهو هو؟ - قال: نعم. فأقبلا يبتدرانى فأخذانى فبطحانى إلى القفا، فشقا بطنى (تذكروا قال: البطن وليس الصدر)، ثم استخرجا قلبى فشقاه، فأخرجا منه علقتين سوداوين... إلى آخر الحديث...». ونص الحديث هنا يشير إلى أن الواقعة حدثت عندما كان الرسول طفلا فى حضانة حليمة السعدية، والثابت تاريخيا أنها تكفلت به بعد ولادته حتى فطامه، وفى روايات حتى بلغ الخامسة أو السادسة من عمره، ويتضح من الواقعة كما رواها الرسول الكريم أن طائرين أشبه بالنسر هما اللذان شقا صدره، وأنهما شقاه فى المراعى بجوار ألبهم، وزمن الواقعة نهارا، والرسول كان مستيقظا وليس نائما، وشاهد تفاصيل الجراحة التى أجريت له. رواية أخرى وفى رواية ثانية لأحمد بن حنبل (مسند المكثرين ح رقم 11774 و12048 و13555) ذكر عن يزيد بن هارون، عن حماد، عن ثابت، عن أنس بن مالك: أن النبى كان يلعب مع الصبيان (تذكروا قال: مع الصبيان وليس مع ابن حليمة السعدية)، فأتاه آتٍ (تذكروا قال: آتٍ وليس طائرين ولا ملائكة) فأخذه فشقّ صدره. قبل الوحى وبعده وفى مرويات أخرى لأنس نقف أيضا على بعض الاختلافات، وعلى رأس هذه الاختلافات عمر النبى خلال الواقعة، فى رواية للبخارى (بدء الخلق ح رقم 2968) ذكر: عن أنس عن مالك بن صعصعة قال النبى: بينما أنا عند البيت بين النائم واليقظان، إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت فانطلق بى، فأتيت بطست من ذهب فيها من ماء زمزم، فشرح صدرى إلى كذا وكذا، فاستخرج قلبى، فغسل بماء زمزم، ثم أعيد مكانه إيمانا وحكمة، ثم أتيت بدابة بيضاء يقال له البراق، فوق الحمار ودون البغل، فحملت عليه، ثم انطلقنا حتى أتينا السماء الدنيا، فاستفتح جبريل... إلخ الحديث فى: صحيح مسلم «الإيمان»، والترمذى «تفسير القرآن»، والنسائى «كتابى الصلاة وتفسير القرآن». وفى رواية أخرى للبخارى، كتاب «المناقب»، عن أنس عن مالك بن صعصعة: «أن النبى حدثهم عن ليلة الإسراء: بينما أنا فى الحطيم، وربما قال فى الحجر، مضطجعا إذ أتانى آتٍ، فشق ما بين هذه إلى هذه، فاستخرج قلبى، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا فغسل قلبى ثم حشى». وفى رواية ثالثة عن أنس بن مالك: كان أبو ذر رضى الله عنه يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فرج سقف بيتى وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدرى ثم غسله بماء زمزم... إلخ.. الحديث فى البخارى «كتابى الصلاة وأحاديث الأنبياء»، ومسلم «الإيمان»، وأحمد «مسند الأنصار». العناصر الأساسية نخلص من هذه الروايات التى رواها أنس بن مالك، أنها تختلف فى عناصر أساسية جدا، وهى: عمر الرسول وقت الجراحة كما سبق وقلنا، حالته، الشهود، من قاموا بالجراحة، الأدوات المستخدمة، مكان إجراء الجراحة، المدهش فى مرويات أنس بن مالك المختلفة والمتضاربة أن جميعها صحيح السند، فقد رواها أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة، وأبو ذر (جندب بن جنادة)، ثم رويت بعد ذلك عن أنس فقط، ويتضح أن معظمها جاء بلسان النبى، وانفرد أنس برواية عما حدث للنبى، وتبين اختلاف الروايات حول المكان الذى استقبل فيه النبى الآتى: المسجد، المنزل، الحطيم، واختلافها فى عدد من استقبلهم: جبريل، ثلاثة نفر، آت، وكذلك اختلافهم فى وصف حالة النبى خلال عملية الاستقبال: بين النائم واليقظان، مضطجعا، متيقظا. وقد اتفقت الروايات حول توقيت الجراحة، حيث اتضح أنها حسب المرويات قد أجريت له قبل صعود الرسول فى رحلة الإسراء والمعراج، وكان عمره نحو الخمسين سنة. خلاصة القول إن هذه المرويات تضعنا أمام ثلاث وقائع لشقّ الصدر: الأولى: فى الطفولة عندما كان فى كنف حليمة السعدية. الثانية: قبل نزول الوحى، حيث روى أنس على لسانه أن ثلاثة نفر جاؤوه قبل أن يوحى إليه. الثالثة: خلال فترة النبوة. ويتضح من بعض المرويات أن الذين أتوا للنبى لم يكونوا يعرفوه، وهذا يتضح من قول أولهم: أيهم هو؟ قال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، وبعد أن حملوه إلى بئر زمزم استقبله جبريل هناك. ويتضح أيضا من خلال الروايات، أن عملية الشقّ كانت للبطن، وكانت للصدر، وتم إخراج قلبه وشقه، فى روايات أخرجت منه: علقتان وسودوان، وفى روايات تم حشوه بالحكمة والإيمان، وفى روايات تم غسله بماء زمزم، وروايات تم غسله بزمزم وحشوه بالإيمان والحكمة. إذن فى الروايات: الواقعة: نهارا، وليلا. الرسول: طفلا وصبيا ورجلا. الحالة: متيقظا، بين اليقظة والنوم، نائما. وضع الرسول: كان مضطجعا، يلعب مع الأطفال، يجلس بجوار البهم، يجلس فى المسجد. الجراحة: أجريت له فى المكان الذى كان فيه، فى مكان غير محدد، صعدوا به إلى السماء. الذين أجروا الجراحة: مجهول، أو مجهولون (آت أو أتوا أو ثلاثة نفر). جنسهم ونوعهم: ملائكة، نسر، غير محدد، جبريل. مكانتها من الرسالة: فى طفولته، قبل الوحى، بعد الوحى.