يستطيع أى مستمع للشيخ الطبلاوى أن يميز صوته بوضوح وثقة، لأنه أحد المقرئين المصريين الذين أبدعوا أسلوبا خاصا جدا فى التلاوة والتجويد والترتيل، ولم يحقق الشيخ الطبلاوى شهرته التى عمت الآفاق العربية والعالمية والإسلامية بيسر وسهولة، فرغم أنه كان موجودا بقوة فى عالم التلاوة، ولم يكن مجهولا على مدى عقود طويلة، منذ أن بدأ مسيرته فى القراءة منذ عام 1947. وكان عمره آنذاك ثلاثة عشر عاما، فإنه لم يعتمد فى الإذاعة المصرية إلا عام 1967، وكان عمره ثلاثة وثلاثين عاما، فقد ولد فى 14 نوفمبر عام 1934، أى أنه فى هذا العام سيكمل الثمانين من عمره. ونشأ الشيخ الطبلاوى فى حى «ميت عقبة»، وهو حى يربط بين الريف والحضر، وتعلم الشيخ قراءة القرآن الكريم فى الكتّاب، وهو المدرسة الأولى لقراء القرآن الكريم وحفظه وتجويده وتلاوته. وما من قارئ للقرآن الكريم إلا وارتاد هذه الكتاتيب المنتشرة فى كل ربوع مصر، ومنذ أن بدأ الشيخ الطبلاوى حياته العملية، وراح صيته يملأ الآفاق، وتكاثرت عليه الطلبات هنا وهناك، للدرجة التى لا يستطيع أن يلبى كل الطلبات، وكان الذى يريده فى مناسبة ما، يبرم اتفاقا قبل حلول المناسبة بنحو الشهر. وهذه الشهرة جلبت على الشيخ غيرة تصل إلى درجة الحقد والمكيدة، ورغم أن المجال الذى يعمل فيه هؤلاء المشايخ مجال محفوف بالروحانية، فإن الصراع بينهم ليس نزيها، ومن يقترب من هذا العالم سيدرك كم هو ملبد بغيوم الحقد والكراهية والغيرة، ويؤسفنى أن أقول ذلك، وربما يستنكر هذا القول بعض الرومانسيين، أو بعض من يمتهنون التلاوة. لكن هذه هى الحقيقة الشاخصة أمامنا طوال الوقت، فالشيخ الذى يبرز فى مجال التلاوة ويعلو صيته لا بد أن تقابله مجموعة حروب تعوقه وتعطله، وقد تبعده تماما من حقل القراءة، وللشيخ الطبلاوى أحاديث كثيرة تنضح بالمرارة من كثرة الحروب والمعوقات التى واجهها فى بداياته، والتى ما زالت تلاحقه حتى الآن، للدرجة التى أطلق خصومه شائعة رحيله أكثر من مرة، وأصبحت هذه الشائعات سلاحا رخيصا وخسيسا لا يرفعه سوى السفهاء، مثلما حدث مع الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى، ولا يعلم هؤلاء أن هذه الشائعات لا تعمل سوى على استعادة المستهدف إلى دائرة الضوء بقوة، ولذلك أجرت قناة «العربية» حوارًا مع الشيخ الطبلاوى مؤخرًا لتأكيد أنه بخير وصحة، وثانيا ليدلى بآرائه السياسية التى عوقته الظروف عن أن يقولها. والجدير بالذكر أن كثيرا من الدوائر تحاول استخدام المشاهير لتنفيذ أغراضها، هكذا فعل الشيخ العريفى الذى جاء إلى مصر فجأة لكى «يعلمهم» كيف يحبون بلادهم!!! ولكن فى السياق كان لا بد أن يزور الشيخ الطبلاوى، ويعلن عن أنه سيجرى معه حلقة تليفزيونية، ولكن الأمر لم يكن إلا للاستهلاك السياسى، ولخدمة أغراض معينة، وكان الطبلاوى بريئا منها تماما، وفى هذا الحوار صرح الطبلاوى بأنه نصح مبارك بأن ينظر حوله، ولكنه أفصح عن أن زكريا عزمى كان يحاربه، وفى ما بعد قال لمرسى «اتعظ من سلفك»، ولكن الأول لم ينظر حوله، والثانى لم يتعظ من سلفه، وربما كانت كلمته للرئيس السيسى هى أن ينتقى معاونيه ومستشاريه بعناية فائقة. أقول إن شائعة رحيل الطبلاوى لم تفعل سوى أن وضعت الرجل فى دائرة الضوء مرة أخرى، وللطبلاوى حكايات كثيرة حول الحروب التى واجهته، ومن بينها محاولات استبعاده من الإذاعة، وعدم اعتماده كقارئ للقرآن الكريم، وظل يتقدم إلى الإذاعة من عام 1960 حتى عام 1967، رغم نجاحه المدوى، وشهرته العارمة، فالشيخ الذى اضطرته الحاجة وهو فى الثالثة عشرة من عمره ليقرأ فى المنازل، وقد تقاضى أول أجر له خمسة قروش عام 1947، ثم أحيا شهر رمضان كله بثلاثة جنيهات، وفى العام نفسه -كما يحكى الشيخ لأكرم السعدنى- التحق بمعهد القراءات بالأزهر الشريف، ليمضى خمس سنوات، ليحصل على شهادة العالمية وشهادة التخصص، وكان قد درس القراءات العشر الكبرى والعشر الصغرى والقراءات الشاذة، ويوضح بأنها نوع من القراءة يدرسها الطلاب فقط ولكن من الممنوع ممارستها. بعد ذلك انطلق الشيخ يصول ويجول فى المناسبات كافة، وكان الاحتفاء به يتزايد عاما بعد عام، ولكن هذه الشهرة وهذا المجد لم يشفعا للشيخ لدخوله إلى عالم الإذاعة، إذ إنه كان يتقدم لها، ويؤدى الامتحان أمام لجنتين، الأولى مختصة بأحكام القراءة والتجويد والحفظ، وكان الشيخ ينجح أمام هذه اللجنة بامتياز، أما اللجنة الأخرى فكانت مختصة بالمعارف الموسيقية، وكان الشيخ يخفق أمامها، وكان مبرر اللجنة يتلخص فى أن الشيخ لم يدرس الموسيقى، وتنقلاته بين النغمات خاطئ، وعليه ليدخل الإذاعة أن يدرس الموسيقى دراسة جيدة، ولكن الشيخ لم يكن مستعدًا لهذه الدراسة، وكان يقول: «إذا كانت الموسيقى مهمة إلى هذه الدرجة، فلماذا لم يتعلمها شيخنا الجليل عبد الباسط عبد الصمد؟». وفى ذلك كان للشيخ الطبلاوى حكاية مع الموسيقار محمد عبد الوهاب، وكان عبد الوهاب قد استمع إلى الشيخ وأثنى عليه، وأطلق عليه بأنه صاحب النغمة المستحيلة بين كل المقرئين، ولكن عبد الوهاب كان متحفظا حول عزوف الشيخ عن دراسة الموسيقى، وكان يرى بأنه لو تعلم الموسيقى سيكون له شأن آخر وعظيم واستثنائى فى عالم التجويد، ولذلك كان الشيخ يتفادى لقاء الفنان عبد الوهاب، حتى التقيا صدفة، وكان بينهما حوار ودى جدا، وخفف الفنان من قلق الشيخ، وقال له إنه كان يتعرض لحروب وانتقادات كثيرة فى مقتبل حياته، وكان أمير الشعراء أحمد شوقى يقول له دوما: «لا تلتفت لمثل هذه الصغائر، وسوف تصبح شامخا»، وها هو عبد الوهاب تجاوز كل هذه الحروب، ليصير بالفعل شامخا، وها هو الشيخ الطبلاوى الذى تجاوزت الحروب حدود الكلام إلى محاولات الاغتيال، يعيش بيننا وفى قلوب الناس المحبين جميعا.