عدنا مجددا نحاول أن نستنبط كيف تُصنَع السياسات العامة فى مصر، فى ظل التخبط وانعدام الشفافية الذى عاد يصاحب صناعة السياسات العامة فى مصر. بدأ الأمر بتسريب عن رفع أسعار الطاقة خلال الأيام القليلة المقبلة، ثم نفى، ثم فجأة إقرار رفع الأسعار دون أى تمهيد أو استعداد لمواجهة آثاره التضخمية. بالتأكيد، كانت هناك إشارات عدة على أنه أصبح أمرا قريب الحدوث، خصوصا بعد رفض الرئيس الموازنة العامة، وإشارته إلى أن العجز لا يمكن أن يستمر بهذا الشكل، إلا أننا عدنا لضرورة قراءة ما بين السطور، فلا موازنة معلنة بشفافية تطرح لنقاش عام (خصوصا فى غياب برلمان منتخب)، ولا إجراءات اقتصادية محددة من حق هذا الشعب أن يعرفها مسبقا، أو لا سمح الله يكون جزءا من إقرارها. وهنا مربط الفرس، كيف تُصنَع السياسات العامة فى مصر؟ هل تُصنَع السياسات عن طريق الخبراء الأجانب أصحاب الوصفات جاهزة التحضير بعيدا عن أى تفاعلات داخل المجتمع؟ فقد أعلنت جريدة «الجارديان»، وبعيدا عن مشاركة تونى بلير من عدمها، عن تمويل الإمارات لشركة استشارات عالمية حتى تشكّل مجموعة عمل اقتصادية لتقديم استشارات لرئيس الجمهورية فى الملف الاقتصادى. وإذا لم يكن عبر الخبراء الأجانب فمَن هم المشاركون فى صناعة القرار؟ خصوصا أن رئيس الجمهورية لم يعلن عن فريقه الرئاسى ومستشاريه حتى هذه اللحظة، أيضا: هل تم أى تشاور مع القوى المجتمعية المختلفة ناهيك بالسياسية؟ أما إذا جئنا لكيفية تطبيق القرار والإعلان عنه وتعبيره عن رؤية اقتصادية أشمل، فنجد كثيرا من التخبط وانعدام الشفافية. أولا: لم يكن هناك أى جاهزية لاحتواء ارتفاع الأسعار، بل تحدَّث رئيس الوزراء عن وعود وهمية من التجار وسائقى الميكروباص لعدم رفع الأسعار. فى حقيقة الأمر، إن كانت هناك جدية فى ضبط الأسعار فكان لا بد من التفاوض مع أصحاب المصالح المختلفة المتأثرة بزيادة أسعار الطاقة لضمان احتواء الأسعار قبل صدور هذا القرار. الأخطر أنه حتى هذه اللحظة لا يوجد أى توقع دقيق من قبل الحكومة لحجم التضخم المتوقع وآليات التعامل معه. ثانيا: لم تقدِّم الرئاسة أو رئاسة الوزراء أى إجابات مقنعة عن لماذا رفع هذا الدعم الآن ومدى ارتباطه برؤية تنموية واقتصادية أشمل؟ هل استنفذت الدولة جميع الإجراءات الأخرى لتقليل عجز الموازنة؟ إذا كانت الإجابة ب«نعم»، ما تلك الإجراءات؟ لماذا لم يكن هناك أى بديل لرفع تدريجى للأسعار بجانب تطوير شبكة الضمان الاجتماعى ورفع كفاءتها حتى لا يدفع الثمن مجددا الفئات الأكثر فقرا؟ وأخيرا، ما انعكاسات تلك القرارات على الأداء الاقتصادى بمجمله بجانب تقليل عجز الموازنة؟ هل هناك أى نموذج تنموى تعمل السلطة الحاكمة على تطبيقه، فكانت من ضمنه تلك القرارات؟ فى الحقيقة، كلها إجابات غائبة، والحديث العام من قبل الرئيس على أننا سنرى تحسنا بعد عامين دون تحديد معالم نموذجه التنموى (إن كان موجودا) أو تحديد تفاصيل وطبيعة التحسن المتوقع، أصبح حديثا سقيما لن يحتمله المصريون كثيرا فى ظل تلك القرارات.