فى ربيع سنة 1798م امتلأ ميناء تولون الفرنسى بحشود عسكرية ومدنية ضخمة تداعبها أحلام خيالية عن سحر الشرق، ومع إشارة بدء سير الحملة باتجاه مصر يوم 19 مايو، عم الفرح كأن الجميع فى طريقهم إلى نزهة بحرية وليست غزوة عسكرية، وكان الفنان ديفون يجلس وسط الجموع يحكى فى نشوة عن سحر الراقصات الشرقيات ودفء النهار ونسمة المساء وأنواع العطور والبخور، بينما كان قائد الحملة نابليون بونابرت يعكف على قراءة القرآن ودراسة الكثير من كتب التاريخ الإسلامى وحياة الخلفاء والسلاطين ليضع خطة اقتحام العقول، بعد أن انتهى من خطة اقتحام القلاع والحصون العسكرية! ارتدى الإمبراطور الداهية قلنسوة وعباءة شرقية قبل نزوله إلى أرض الإسكندرية فى الثانى من شهر يوليو 1798م، وأمر جنوده بتوزيع بيان على الشعب قال فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله، لا ولد له، ولا شريك فى ملكه/ بيان من السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنسية بونابرت، من طرف الجمهورية الفرنساوية المبنية على أساس الحرية والمساواة. يعرف أهالى مصر جميعهم أن الصناجق الذين يتسلطون فى البلاد المصرية من زمن مديد يتعاملون بالذل والاحتقار فى حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع البلص والتعدى، فحضرت الآن ساعة عقوبتهم، (...) فهذه الزمرة من المماليك يفسدون فى الإقليم الحسن الأحسن الذى لا يوجد فى كرة الأرض مثله، ولذلك حكم رب العالمين القادر على كل شىء بانقضاء دولتهم. يا أيها المصريون قد قيل لكم إننى ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إننى ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإننى أعبد الله سبحانه وتعالى أكثر من المماليك، وأحترم نبيه والقرآن العظيم، وقولوا أيضا لهم: إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشىء الذى يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شىء حسن فيها من الجوارى الحسان، والخيل العتاق والمساكن المريحة؟، فإن كانت الأرض المصرية التزاما للمماليك فليرونا الحجة التى كتبها الله لهم، ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم، ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعدًا لا ييأس أحد من أهالى مصر عن الدخول فى المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها، وسابقًا كان فى الأراضى المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك.. أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجربجية وأعيان البلد، قولوا لأمتكم: إن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا فى رومية الكبرى وخربوا فيها كرسى البابا الذى كان دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطا وطردوا منها الكواليرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين. والفرنساوية فى كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثمانى، وأعداء أعدائه أدام الله ملكه، أما المماليك فإنهم غير ممتثلين لأمره، فما أطاعوا أصلا إلا لطمع أنفسهم، وسوف لا تقوم لهم قائمة، طوبى ثم طوبى لأهالى مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم». وانتهى البيان بخمس مواد ذكر فى آخرها «إن المصريين بأجمعهم يجب أن يشكروا الله سبحانه وتعالى بعد القضاء على دولة المماليك، ويدعون بصوت عال: أدام الله إجلال السلطان العثمانى، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوى، لعن الله المماليك وأصلح الله حال الأمة المصرية». سخر علماء الحملة وقادتها من البيان لكن نابليون لم يعبأ بسخريتهم، واستمر بطريقته، وأثبت المؤرخ كريستوفر هيرولد فى كتابه «بونابرت فى مصر» مدى تأثير الخطاب الإمبراطورى على الفرنسيين والمصريين معًا، وأورد شهادات كثيرة تؤكد أن تأثير البيان فى نفوس المصريين كان أشبه بالسحر. وغدًا نكمل..