يُعد التوسع الإقليمى الكبير الذى حققه تنظيم «الدولة الإسلامية فى العراق والشام» (داعش) خلال منتصف هذا الأسبوع، المؤشر الأكثر جِدَّة وخطرًا، إلى واقعية التوقعات بأن تفضى الصراعات المتفجرة فى المنطقة منذ الاحتلال الأمريكى للعراق، التى تفاقمت إثر الانتفاضات الشعبية العربية فى إطار ما عرف ب«ثورات الربيع»، إلى إعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط و«تفكيكها» على أسس طائفية وإثنية. يوفر ترسخ الانتصارات المفاجئة التى حققها تنظيم «داعش» فى محافظتى نينوى «شمال غرب العراق على الحدود مع سوريا»، وصلاح الدين «الملاصقة لها فى وسط العراق»، المصنفتين ضمن ما يسمى المثلث السنى، الأساس لنشأة أول «إمارة سنية» فعلية يقودها تنظيم سلفى جهادى متطرف فى الشرق الأوسط. يؤسس امتداد «داعش» بطول نهر الفرات عبر أراضى العراقوسوريا وعلى الحدود بينهما نطاقا فاصلا بين البلدين، يخضع لسيطرة هذا التنظيم السلفى الجهادى، الذى يعلن تبعيته المباشرة لتنظيم القاعدة، رغم انتقاد «القاعدة» له إثر قتاله مؤخرا تنظيم «جبهة النصرة» المحسوب بدوره على «القاعدة» داخل الأراضى السورية. كما يقطع هذا النطاق التواصل الجغرافى بين إقليم كردستان العراق وأكراد سوريا، الذين اشتبكوا بالفعل مع «داعش» فى معارك دامية فى شمال البلاد. ويلقى نمط الامتداد والتوسع هذا، الذى يبدو ممنهجا ومخططا بعناية، بتبعات استراتيجية عميقة وبعيدة المدى، ليس فقط على ساحات المعارك فى سورياوالعراق، ولكن على بعض المحاور الإقليمية. من دون شك، فإن الصراعات الإثنية والطائفية المتصاعدة فى الشرق الأوسط هى نتاج أصيل لفشل بناء دولة قومية تدمج مختلف مكوناتها الاجتماعية، وتصهرهم منذ نشأة دولة ما بعد الاستقلال فى العالم العربى، من جهة، وكذلك لفشل بناء نموذج تحول ديمقراطى حقيقى فى المنطقة، سواء فى ظل دعاوى إعادة بناء أفغانستانوالعراق بعد غزوهما أمريكيا، أو فى ظل «ثورات الربيع العربى»، من جهة أخرى. لكن بالرغم من ذلك، فقد ظلت القدرة التفكيكية والتفتيتية الكامنة فى هذه الصراعات مقيدة نتيجة توازنات القوى الإقليمية والدولية، حتى إن أولى محاولات تأسيس وجود حقيقى ل«داعش» فى العراق خلال عامى 2006 و2007 تم إجهاضها، بفضل سياسة التعزيز العسكرى الأمريكى آنذاك. لكن هل يمكن تصور وجود قرار دولى، وربما إقليمى، الآن بالقبول بمثل هذا التقسيم الآن؟ يمكن محاولة الاستدلال على إجابة لهذا التساؤل حاليا من خلال استقراء التداعيات الاستراتيجية لخريطة فسيفسائية تتصاعد احتمالات تحققها فى شرق البحر المتوسط، فى ظل إحجام إقليمى أو دولى عن تدخل حقيقى لمنعها. نجاح «داعش» فى الحفاظ على سيطرتها على تلك المناطق سيمثل حاجزا «سنيا» مهما أمام التواصل بين شيعة العراق والداخل السورى، حيث ورد عديد من التقارير التى تشير إلى قتال عديد من شيعة العراق إلى جوار قوات النظام السورى الحاكم، لكن الأهم والأبعد أثرا أن نجاح تأسيس إمارة سنية متطرفة فى تلك المنطقة سيمثل عائقا جغرافيا ومذهبيا مهما أمام امتداد النفوذ الإيرانى، عبر ما يسمى الهلال الشيعى (الذى يشير إلى سيطرة قوى موالية لإيران، أو هيمنتها، على مقدرات السياسة فى كل من العراقوسورياولبنان)، إضافة إلى إعاقة نشأة أى كيان كردى كبير جنوبى تركيا. لن تقتصر الآثار الاستراتيجية بالنسبة لتوازنات القوى فى المنطقة على ذلك، إذ يبدو أن كيان «داعش» الإقليمى، إذا استقر وجوده وترسخ يمكن أن يمهد إلى نشأة ما لا يقل عن ستة كيانات جغرافية أخرى فى كل من العراق (إقليم كردستان فى الشمال، وإقليم سنى معتدل نسبيا فى الوسط، وإقليم شيعى فى الجنوب)، وسوريا (إقليم كردى فى الشمال، وإقليم يضم المعارضة السنية المعتدلة نسبيا فى الوسط، وإقليم يخضع لسيطرة النظام فى الجنوب الغربى وبامتداد ساحل المتوسط)، هذا فضلا عن تشظى لبنان إلى كانتونات تعيد لهذا البلد ذكرى الحرب الأهلية. وفى هذا السياق، فإن بقاء بقايا نظام الأسد ضعيفا معزولا منزوع الخيارات الاستراتيجية بعد تدمير أسلحته الكيماوية على حدود إسرائيل يمثل الخيار الأمثل لهذه الأخيرة، بدلا من مواجهة قوى جهادية شديدة التطرف. كما أن سيطرة بقايا هذا النظام على شواطئ سوريا وموانئها المتوسطية يمثل أهمية استراتيجية بالنسبة لانتشار القوات البحرية الروسية فى شرق المتوسط. يبقى أخيرا، أن وجود هذه الكيانات الضعيفة المتناحرة سيبقى هذه المنطقة بأسرها عاجزة ومشلولة استراتيجيا ورهنا لكل أنماط التدخل الدولى الممكنة. هل يمكن من خلال استقراء دلالات تقدم «داعش» افتراض أنه تم إطلاق قوى التفتيت فى العراق وبلاد الشام، سيكون هو الخيار البديل عن الخيار غير الممكن بحسم الحرب بالوكالة الجارية على الأرض السورية، لمصلحة أى من الأطراف الإقليمية أو الدولية المتورطة فيها؟ وهل هذا التفتيت هو الترجمة العملية لسياسة «الفوضى الخلاقة» التى تسهل الانسحاب الأمريكى باتجاه الشرق؟ لن تتأخر الإجابة عن هذين السؤالين كثيرا، لكن بانتظارها سنواجه تصاعدا وانتشارا خطيرين فى الصراعات الطائفية، والتطرف الدينى والمذهبى والعرقى، والأهم وأدًا حقيقيا لآفاق الديمقراطية والتقدم فى هذه المنطقة فى الأمد المنظور. حينها سنشهد بالفعل اتفاق «سايكس بيكو» جديد يعيد رسم خريطة المنطقة على أسس طائفية وإثنية.