يصاب الإنسان في رحلة حياته بأمراض كثيرة ، منها ما يصيب جسمه ، ومنها ما يصيب مكوناته الجوّانية الروحية ، وهي ما اصطلح على تسميتها الأمراض "النفسية " ، وأهمها الاكتئاب . لقد انتشر الاكتئاب كمرض نفسي حتى سمي مرض العصر ، ولست مؤهلا لشرح تعريف المرض أو أعراضه ناهيك عن علاجه ، ولكن سأتحدث عن أسباب المرض من – وجهة نظري – وذلك لأنني أزعم أنني قد شاهدت الكثير جداً من حالات الاكتئاب مع الكثير من المعارف والأصدقاء الأعزاء ، الذين شرفوني بالثقة الكبيرة ، وأطلعوني على ما يدور داخل نفوسهم ، وأشركوني في أسرارهم الخاصة . الشخص المصاب بالاكتئاب دائماً يكون صاحب وجهة نظر متشائمة في أحد الاتجاهين : الماضي ، أو المستقبل ، أو الاثنين ...! فهو إما شخص قد قطع شوطاً في حياته ، ويرى أن ما أنجزه في حياته قليل . وإما شخص يرى مستقبله أسوداً بشكل من الأشكال ، فهو لا يرى في المستقبل أملاً لتحقيق إنجاز ما وكلا الأمرين يؤدي إلى أن يقع الإنسان تحت أسر افتراضات اللحظة الراهنة . الاكتئاب دائماً يعمي بصر الإنسان وبصيرته . فمثلاً ... كان لي صديق عزيز وكان أستاذا جامعياً ، وكان دائماً يتفوق عليّ في أغلب مراحل الدراسة ، وأصيب بالاكتئاب الشديد ، حتى كاد يفقد عمله ، وحين جلست معه وجدته من النوع الأول ، فهو – في تلك اللحظة – يحتقر إنجازاته ، ويرى أن حياته ضاعت سدى ! وقد بدأت حواري معه بشكل منطقي ، فطالبته بالاعتراف بما أنجزه من خلال أسئلة بسيطة ، فسألته : هل تعترف أنك قد حصلت على الشهادة الابتدائية ؟ وهكذا ... حتى اعترف بحصوله على الابتدائية ، والإعدادية ، والثانوية ، وأنه قد أنهى دراسته الجامعية ، وأنه قد حصل على الماجستير والدكتوراه بتقدير امتياز من جامعة محترمة ، وأنه قد أنجز عدة أبحاث وكتب مهمة في تخصصه ، وبعدها اعترف صديقي بأنه غالبية من حصلوا على جائزة نوبل (في تخصصه) كانوا وهم في مثل سنه في وضع مماثل تقريباً لوضعه ، وأحيانا في وضع أسوأ من وضعه ! دائما ما يعمد المكتئب إلى احتقار إنجازات حياته ، سواء كانت شهادات ، أو علاقات إنسانية ، أو تمسكاً بالفضيلة ، أو كفاً للأذى عن الناس ... إلخ المكتئب الآخر يرى مستقبله سوادا ، وهذا النوع دائماً يفترض الكثير من الافتراضات التي قد تكون صحيحة في اللحظة الراهنة ، ولكنه دائماً يعمى عن قدرة الله في تغيير الأمور ، وعن أن الكون بطبيعته متغير وأن الحياة دول . عرفت شاعراً شاباً متميزا جداً ، وكان صديقاً عزيزا ، أصيب باكتئاب حاد ، لأنه يرى مستقبله مغلقاً ، فوجهة نظره أنه إذا لم يصبح بشهرة وقدرة الشاعر الراحل محمود درويش فهو فاشل ! وهو يرى في هذه اللحظة أن جميع الظروف ضده ، وأنه لن يتمكن من أخذ "ما يستحقه " من التقدير ، وأن البيئة الثقافية لا تسمح بالمواهب الشريفة ...الخ لقد قضى على نفسه بنفسه ، أو لقد ساعد في القضاء على نفسه . إن المكتئب تستهلكه اللحظة الراهنة ، فيرفض أن يستأنس بما قد فعله في الماضي ، ويرفض أن يتفاءل بما يمكن أن يحققه في المستقبل ! إن استهلاك الإنسان لذاته في اللحظة الراهنة أمر كارثي على صحته النفسية ، أذكر أن أحد أقربائي حكى لي قصة عن صديق له في المرحلة الإعدادية ، كان لهذا الشخص أب شديد القسوة ، يضربه كثيراً وبعنف ، وحدث أن رسب هذا الطفل وهو في الثاني الإعدادي ، فشنق نفسه خوفاً من أبيه ! ما الذي حدث لهذا الشاب اليافع ؟ لقد استهلكته اللحظة الراهنة ، فأصبحت مواجهة أبيه وهو راسب نهاية الدنيا بالنسبة له ، وبالتالي .... حصل ما حصل . إن كثيراً منا ، حين يستسلم للاكتئاب يسمح للحظة الراهنة أن تحكمه ، أعرف أن الظروف قد تقسوا على الإنسان كثيراً ، وأعرف أن الإنسان قد خلق ضعيفاً ، وأعرف أن البعض قد يتهمني بأني أتحدث ويدي (في الماء البارد) ، ولكن ذلك لن يمنعني أن أقول : إن استسلام المرء للحظة الراهنة ، مهما بلغت قسوتها وشدتها ، معناه أنه يشنق نفسه ! أما إذا سال سائل عن الحل ، فجوابي : أن تسعى للتغيير ، غير نفسك وغير ما ومن حولك ! عبدالرحمن يوسف