مطارد بأفكاره في المنافي، هكذا يعيش نصر حامد أبو زيد، يتسلل إلي وطنه كضيف ثقيل، يحصد الجوائز في صقيع أوربا، فلا تكتمل فرحته، فالأبواب تغلق أمامه كلما اتجه شرقا، أو جنوبا، والجوائز تضاف إلي حيثيات القضاء عليه ، باعتبارها دليلا إضافيا علي دور مشبوه، يؤديه لخدمة الغرب، كما يزعم أعداء العقل. قال لي طالب المولي العضو المؤسس لمركز الحوار الثقافي (تنوير)الداعي لأبي زيد كي يلقي محاضرته في الكويت، إن الرجل لحظه السيئ وصل إلي بلادهم قبيل يوم واحد من استجواب قاس للحكومة، فخشيت من تحالف السلفيين مع بقية المعارضة لإسقاطها، وبعد مساومة بعض السلفيين لرئيسها، وطلبهم منع دخول أبو زيد لأراضيهم، خاصة النائب وليد الطبطبائي، وقد رضخ رئيس الحكومة، ونفذ طلب من أسماهم المولي بالظلاميين بكل دقة، منع الرجل من دخول الكويت، بلا سند قانوني. وصف المولي المساومات بأنها قبلية وسلفية في الوقت ذاته، وهي مساومات متكررة ، تتعرض لها النخبة المثقفة هناك، قد تمر الأمور علي خير لو لم ينتبه هؤلاء أو لا يتصادف معها حدث سياسي، وقد دعا المركز نفسه العام الماضي المفكر التنويري الشهير محمد أركون. يعترف المولي أن النخبة الفكرية في الكويت ضحية لصفقات دائمة بين السياسة والدين، يكون المثقف برأيه أول الضحايا، لا يجد من يدافع عنه، وتقدم رأسه قربانا سهلا. فالكويت بحسب المولي، لديها ممارسة ديمقراطية قوية، وصناديق انتخابات نزيهة، لكنها تخلو من ثقافة تدعمها وتنزع جنوحها، خاصة لو كان ممارسوها لا يؤمنون بجوهرها، يشعلون الأجواء في معارك تؤخر الوطن وتعرقل مصالحه، وتضر بسمعته، ففي الوقت الذي عرقلت فيه فوضي الاستجوابات صفقات بالمليارات، ففي ظل فوضي الاستجوابات وعدم الاستقرار الحكومي ، هرب المستثمرون وضاعت خلال الدورة الماضية مثلا صفقة بيع مصفاة للغاز قيمتها 15 مليار دولار، وأخري لشركة داو ديميكال قيمتها 17 مليار دولار. إضافة إلي الفوضي والمراهقة السياسية لنواب البرلمان الكويتي، يطل السلفيون بمعارك تستنزف القوي، وتفرض ظلاما دامسا لا يقدر عليه تنوير أبو زيد ولا جهود حوارييه من المثقفين والمفكرين الكويتيين، خاصة الليبراليين منهم، ولعل استعراض بعض طلبات الإحاطة والاستجوابات كفيل بتوضيح سواد الصورة، فتقدم مثلا النائب محمد هايف المطيري باستجواب خلال الدورة الماضية ضد تدريس الموسيقي في المدارس، واصفا الأمر في حالة حدوثه بأنه تحويل للفصول إلي مراقص، ومنع زملاؤه تامر حسني من الغناء بعد عناق فتاة له علي المسرح، وطالب آخر بمنع بيع فانلة فريق برشلونة لأنها تحمل صليبا والكويت بلد مسلم! يكسب السلفيون بتلك الممارسات شعبية الشارع، وتنافقهم الحكومة كي تنحني للتيار، وهو سلوك سياسي قديم قدم الممارسة السياسية في بلادنا ، سبق أن تورطت فيه شخصيات بقيمة سعد زغلول أثناء أزمة الشعر الجاهلي مع طه حسين. من بين سلفيي الكويت يبرز الصوت الأكثر تشدا، وليد الطبطبائي، وللرجل باع طويل في تشويه التجربة الديمقراطية الوليدة في الكويت، فله اليد الطولي في أزمة أبو زيد الأخيرة، كما سبق وقدم استجوابا للحكومة، مثلا لأن فريق ليفربول الإنجليزي ، جاء إلي الكويت للعب مباراة في كرة القدم، ويرتدي لاعبوه فانلات عليها شعارات لمنتجات روحية. أطلق البعض علي الطبطبائي لقب حاكم الكويت الفعلي، رمز الظلام داخلها، قال لي طالب المولي إنه أول من ضغط علي الحكومة كي تمنع دخول أبو زيد، يكرهه المثقفون هناك، فيقول المولي إنه لم يقرأ أي أعمال لنصر أبو زيد،فهي أعمال للنخبة، وإذا قرأها لن يفهمها، وإذا فهمها سيفهمها بطريقة مغرضة وعلي غير حقيقتها، ليحصل علي مكاسب سياسية. بمزيد من الإحساس بالقهر أنهي المولي حديثه معي بقوله: لسنا سياسيين.. ونقاوم الظلام بكل ما أوتينا من قوة ، فكيف تغلق أبواب الكويت في وجه مفكر بثقل نصر أبو زيد.. إنها سبة." كان لابد أن أتحدث مع بطل الظلام في الكويت.. وليد الطبطبائي، سألته لماذا لم تطرد نصر أبو زيد من الكويت، فقال لي : إن الحكومة هي التي اتخذت القرار، حتي لا تغضب الشارع، كان ردي:ولماذا تتحدث باسم الشارع وما وجه خطورة أبو زيد من وجهة نظرك، فقال إن الرجل يسيء إلي الإسلام ، وله أقوال خطيرة ، ومنها مثلا قوله إن " القرآن تراث وليس كلاما إلهيا مقدسا"، " ترتيب المصحف ليس صحيحا"، " القرآن مكتوب بلغة الصعاليك"، إضافة إلي كتاباته الأخري التي تجرح مشاعر عموم المسلمين بحسب تعبيره. هنا فقط أدركت صحة كلام المولي، فالرجل لم يقرأ حرفا من أعمال أبو زيد ، ففي كتابه نقد الخطاب الديني ،وكذلك في رسالته للدكتوراه عن تأويل القرآن ،أو كتابه فلسفة التأويل :دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي، قال إن القرآن نزل بلغة البشر ، ومن هنا لا مانع من التعامل مع نصوصه بالمناهج البشرية، أي تطبيق المنهج البشري في دراسة كلماته وتعبيراته، للوصول إلي معان غير ظاهرة، أو ما يسميه علماء الخطاب" المسكوت عنه"، فقال أبو زيد مثلا في نقد كتاب الخطاب الديني (ص 27) ،الآية القرآنية تقول: (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) ،" لا يجب الوقوف في تحليل هذا القول عند حدود المفهوم ،: النهي عن الإيذاء بالقول أو الدعاء لهما بالرحمة ، إن هذا المفهوم يشير إلي ضرورة النهي عن الإيذاء بالقول إلي النهي عن الإيذاء البدني وكل أنماط القسوة ولو بالإشاحة بالوجه واليد". ما سبق نموذج علي كيفية تطبيق علوم الإنسان في فهم القرآن، لكن الطبطبائي وزمرة السلفيين اعتبروا تطبيق تلك المناهج كفرا. قال الطبطبائي ردا علي اتهامي له بمساومة الحكومة ، كي ترحل أبوزيد:" هذا ليس صحيحا، فأنا صوت ضد الحكومة، في اليوم التالي ولو كنت أساومها لوقفت بجانبها،هي تفضلت مشكورة بطرده حتي لا تحدث فتنة". لكن المساومة لا تقتصر علي التصويت فتدخل في بنودها أيضا فتح ملفات إضافية قد تزيد من حدة الاتهامات ضدها خلال الاستجواب إضافة إلي حشد العامة ضدها في الشوارع وقف أبوزيد في مطار الكويت غير مصدق ما حدث، وفي لحظة انفعال وصف قرار المنع في تصريح هاتفي للوطن الكويتية بأنه تحت حذائه، أغلقت الأبواب في وجهه، وأصر الظلاميون علي موقفهم، فقال لي الطبطبائي في ملل:" لو عاد أبو زيد إلي الكويت ألف مرة سنمنعه من الدخول، حتي يرجع عن أفكاره الإلحادية ، يكرمه الغرب لطعنه في الإسلام ، ومن يدعمونه في الكويت عديمو المسئولية، وسيحاسبهم الله". عاد أبو زيد إلي القاهرة سريعا طالبا النجدة، التقطه محمد عبد القدوس الإخواني المستنير، همّ به إلي نقابة الصحفيين.. لكن الكارثة أن قاعاتها أغلقت أيضا .. واضطر إلي عقد ندوته في بهو مفتوح.. إنها صفقات السياسة والدين، تغلق الأبواب، وتطرد الضحايا للمنافي، هناك يجدون من يحتضن الفكرة، ويتحمل جريمة إعمال العقل، وحينها تقتصر صلتهم بالوطن علي رنين هاتف بعيد.. قد لا يسمعه أحد في صخب القاهرة.