المؤكد أننا ذهبنا قبل أسبوع للانتخاب بين أسوأ خيارين لعموم الشعب المصرى، وإن كانا هما الأفضل للجماعتين الأكثر تنظيما حاليا:الحزب الوطنى (بفلوله المتمرسين) وجماعة الإخوان المسلمين (بمريديها المتمرسين). خارج هذين التنظيمين المغلقين معظم الناس كانت إما منصرفة مع أحلام ضائعة (مريدى أبوإسماعيل والبرادعي) أو بخيار واقعى عملى أحبط عمدا لتعذر قبول النظام لمرشحيه ( د.عبدالمنعم أبوالفتوح أوحمدين صباحى أوحتى عمرو موسى ) والأقلية كانت مع خالد على والعوا والبسطويسى بما يمثلونه لمؤيديهم من معان. لهذا صعب على معظم الناس الاصطفاف الطبيعى مع أحد المرشحين النهائيين، اللهم إلا من جماعته المباشرة، كما تعذر على المنتمين للثورة، خارج الإسلاميين المتشددين، أن »نعصر على نفسنا ليمونة أخرى« للدفاع عن مرسى بعد أن استهلكنا كل الليمون فى انتخابه (أنا شخصيا أبطلت صوتى لعدم اقتناعى بأى منهما وبثنائية إسلامى غير إسلامى التى يلعبها النظام القديم الجديد معنا وبنا منذ جاء. لكن عند لحظة الاختيار بين إعادة تركيب نظام ثار عليه شعبه، ورفضه بدمه وروحه شباب أعزل مؤمن بحق وطنه فى الحرية والكرامة، هنا يجب الانحياز الصريح للحق أو للخيار الأقرب للثورة بصرف النظر عن التفاصيل. لماذا إذا يصعب علينا الانحياز الحاسم للمرشح الإسلامي؟ لأنه ليس مرشح الثورة - برغم معاداة جماعته الظاهرة للنظام السابق، هو مجرد وجه آخر لنفس العملة القديمة. للحق لم يعد الخوف على الحريات الفردية والتنوع المجتمعى هوالمسيطر علينا من فوز هذا التيار، قدر الشك فى نزاهة وشفافية القائمين على هذا المشروع المعنون ب»الإسلامي« وعدم اختلافهم عما ثرنا عليه أصلا . »السمع والطاعة« التى تمسك له بنيانه وتحشد له الآلاف، تحول دون التفكير المستقل والنقد الفردي، وبالتالى يتشوه نمو الضمير الجمعى لأنهم مجرد تراكم عددى بلا تنوع ولا ابتكار فيه. بموروث المحافظة والتكتم والانصياع التام يصبح هذا التنظيم الحديدى إلها يعبد لذاته لا هيكلا (أو وسيلة) لعبادة الإله الواحد من خلاله. لكن لا ولن يصح إلا الصحيح، قليلة هى الاصوات التى تنادى بهذا المعنى على الجانبين المتصارعين : القيادة العسكرية التى تتمسك بالسلطة والقيادات الإخوانية التى تنازعها عليها، لكن لأنها أصوات مع الحق، لذلك ستكون الأقوى وستنتصر بإذن الله. الغريب أن التيار الرئيسى المحافظ فيهما يضع أمن الدولة ومواجهة الخطر الصهيونى على رأس مسوغات ولايته على هذا الشعب المسكين، مع إن كلا الطرفين يغازلهم سرا ويتبنى أساليبهم علنا. كلاهما يتعامل مع وسيط (سواء كان سعودى أو قطري) للتفاهم مع الجانب الأمريكي-الإسرائيلي. كلاهما يقمع وسيقمع المقاومة الشعبية لصالح »الاتفاقات والمعاهدات والتفاهمات..« سواء عن حق أوعن باطل. كلاهما كيان تسلطى منغلق لا يتورع عن الافتراء على »الأغيار« من الآخرين لتحقيق أهدافه. كلاهما يقدس المال والقوة والسلطة والنفوذ مع استعداد لتنازلات وتبريرات نفعية (مقبولة أوغير مقبولة) . كلاهما يتعامل مع الدين بانتهازية يمينية مفرطة متجاوزا جوانب تقدمية للإسلام مثل الحريات »الإنسان حر ما لم يضر« والحقوق مثل »تقديم حق الانتفاع على حق التملك« ومبادئ عامة مثل »المال مال الله ونحن مستخلفون فيه« وأن »الناس شركاء فى الماء والكلأ والنار« .. هم يكتفون بمنح الصدقات والعطايا بدلا من إعادة قراءة حقوق الفقراء والضعفاء فى ثروات الوطن فى ضوء الدين (بالنسبة للإسلاميين) أومواثيق حقوق الإنسان الضامنة للحد الأدنى من الحقوق الاجتماعية التى وقعت عليها مصر (بالنسبة للنظام القديم المتجدد فى حلته العسكرية ). أخيرا كلاهما يتميز بدرجة من »البجاحة« التى تسمح باتهام الإخوان بقتل المتظاهرين معهم فى موقعة الجمل(!) أو بالاحتفال بالثورة فى التحرير 25 يناير ودماء شهداء مجلس الوزراء لا تزال آثارها على الأسفلت (!). بجاحة تسمح بالتلاعب بالنص المقدس (سواء كان دينيا أوقانونيا) للوصول إلى غايته غير عابئ بكلفة هذا على المصداقية (للأفراد ) أوالنزاهة (لمؤسسة القضاء). لهذه «البجاحة» المستحدثة مصدر فى التراث اليهودي، الذى أصبح يكتب لغة السياسة والتخطيط عبر القارات بنفوذه المتوغل، وهويتلخص فى المصطلح اليديشى «هوتسبا» (يكتب Chutzpah) أو «الجرأة الفائقة على الحق والحقيقة لحد البجاحة» التى تميز بعض اليهود، والتى أصبحت مدعاة للفخر فى استخداماتها الحديثة. هذا المعنى الغريب علينا أصبح يميز تعامل المجلس العسكرى مع الشعب (بدءا من تحويل الثورة لوجهة نظر وأخيرا فى تجاهل الملايين التى اصطفت فى الشمس لساعات لتنتخب مرشحها ثم التلاعب فى نتيجة انتخاباتها عينى عينك). كذلك شهدنا الهوتسبا فى أداء جماعة الإخوان المسلمين (إبان تحالفها مع العسكر وحتى قبل أسبوعين فى تكوين الجمعية التأسيسية الثانية) .. كأن فعلا »اللى اختشوا ماتوا«. هذا الأسلوب دخيل على ثقافتنا لكنه انتقل إلينا مع ما انتقل من تعاليم وكالات العلاقات العامة الأمريكية أمثال Hill &Knowlton, The Rendon Group, Neil &Co, Wirthlin التى كان ومازال بعضها يخطط لمبارك ونظامه القديم-الجديد كل القرارات المهمة للسيطرة والإلهاء (مثال استفتاء مارس لشق صف الثوار وتأخير الانتخابات لما بعد إهلاك طاقة الشعب بالانفلات الأمنى والأزمات الاقتصادية والتموينية) مع متابعة هذه الوكالات لآليات وأساليب تنفيذ هذه القرارات (مثل الاستجابة المتباطئة لمطالب الميادين وعمليات العنف الخاطف المحدد الهدف لعناصر الثورة بدءا بالأقباط فى ماسبيرو ثم عموم الثوار فى محمد محمود ومجلس الوزراء ثم تركيزا على الألتراس فى بورسعيد وفى مذبحة العباسية للسلفيين والمتضامنين معهم) . دور هذه الوكالات مكشوف لدرجة كبيرة فى إدارة الصراعات السياسية لصالح جماعات الضغط فى الولاياتالمتحدةالأمريكية حيث تتولى »إخراج« السياسات وتجهيز المسرح للوصول إلى التأثير الشعبى المطلوب بالفعل والتوقيت المناسب للعميل، ويمكن الإطلاع على تفاصيل أكثر عن الأمثلة والآليات فى مدونة anawanahnoo.blogspot.com التى تشرح طبيعة وآليات هذا الدور الذى كثيرا ما نخلط بينه وبين دور المخابرات بخطأ آن آوان مراجعته.. لكن لن يصح إلا الصحيح، لن يصح إلا الصحيح. فليأت أمن الدولة والحزب الوطنى المنحلان بألف شركة علاقات عامة وليتبجحوا ما علوا تبجيحا :لن يصح إلا الصحيح. الإخوان سيضطرون لفك هذا التنظيم الجبسى ليتعاملوا مع الثورة التى أصبحت حقيقة وواقع أخضر مزهر حولهم، والنظام القديم-الجديد سيضطر أن يستجيب لضغط المستقبل وسيتراجع: »بالذوق أوبالقوة« كما تقولها والدتى! الجريمة لا تفيد. كذلك البجاحة. لكن الطبيعة تكره الفراغ وتساعد الأكثر تنظيما حتى لولم يكن الأجدر بالحق. الصناديق ستصبح عما قريب الحكم والفيصل، والثورة تحتاج لتنظيمات وأحزاب تواصل تحقيق أهدافها بعد أن تهدأ زوبعة الانتخابات. الثوار بطبيعتهم يرفضون المؤسسات ويعفون عند المغانم، لكن كما أنجزوا ثورتهم الرائعة التى اعتبرت نقلة نوعية فى الثورات (بلا أيديولوجية ولا زعامة فردية) عليهم التقدم لإحياء لجانهم الشعبية وتنظيم أنفسهم فى كيانات موازية مبتكرة فى القرى والمراكز لتوصيل الثورة إلى الأطراف. فلينسوا »النخبة« وقذارتها والأحزاب القائمة وخيبتها. لينسوا جيلنا سواء السياسيين المحترفين أو الهواة الفضائيين الممجوجين، وليعملوا سويا لأن لا شيء سيحررهم مثل العمل الجماعى المنظم والاشتباك مع الناس وتنميتهم بمحاربة الجهل والفقر والأمية. هذا هوالهدف الصح والصحيح الذى ننتظره لتشرق شمس هذا الوطن، وهذا ما يجب أن نصطف وراءه لتحقيقه . تماما كما وقفنا خلفه طوال ال 18 يوما. ................... تحية للرجال: على الجانبين المتصارعين الآن، رجال مخلصون للوطن، مؤمنون بالثورة كحقيقة، حتى لولم نكن نعرفهم أونحتسبهم منها، أو نراهم بيننا فى الميادين، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. للمخلصين ألف سلام. نشر بالعدد 602 بتاريخ 25/6/2012