فى الدولة المدنية الحديثة الجيش لا يتدخل فى السياسة.. ولا يقتل المتظاهرين.. ولا يتدخل فى القضاء. هذه من البديهيات. من المفهوم أن يفرض ميراث الاستبداد والفساد المستمر لعقود طويلة ابان حكم مبارك، وما أعقبه من انفجار شعبى عارم فى جمعة الغضب والثورة التى تلتها، «خيارات» عنف على جميع القادة الأمنيين ومن يتبعهم من قيادات ميدانية أصغر، وهو ما أجبر الجميع على تصرفات قد لا تكون هى الأمثل فى الظروف العادية. لكن أن تستمر تداعيات هذه «الخيارات» فى التأثير عليهم وعلى قراراتهم حتى يومنا هذا من خلال تعقد المواقف وتوالى الحلول المؤقتة بمؤامرات، ثم مشاكل مستجدة تتم معالجتها من خلال قرارات غير مقبولة لا عرفا ولا قانونا...هذا غير مقبول. المحصلة للفترة الانتقالية انهيار اقتصادى وتخبط ما بين برلمان ورئيس مشكوك فى شرعيتهم، سواء تم حل البرلمان أوعاد مكسحا، وسوء استخدام للسلطة القضائية فى غير محلها من الجميع وتحلل فى السلطة التنفيذية سيصعب معالجته. كل هذا بسبب علاقة غير شرعية للجيش بجماعات دينية استمرت لشهور بعد أن توسم فيها المقدرة على السيطرة على الثورة، ثم ما لبث أن هجرها تاركا المجتمع منقسما على نفسه ما بين إسلاميين وغير إسلاميين. علاقة آثمة أنجبت للوطن برلمانا مشوها ورئيسا «نصف ثائر نصف محافظ» يخشون منه على أسرار الجيش والوطن بحجة انتمائه لمنظمة إسلامية بعلاقات دولية، مما يوجب عزله عن الأجهزة الوطنية السيادية على حد زعمهم.... هذه هى الخطيئة وهذا هوالجنون لأن العاقل يتعلم من أخطائه ويراجع حساباته أولا بأول ولا يستسلم للتمادى فى الحياة بين الباطل والحرام للوصول لهدفه. لا أدعى براءتنا، نحن الثوار والمعارضين من إسلاميين وغيرنا من جماهير الشعب عامة، من ملوثات عصر مبارك التى تستدعى مراجعة تصرفاتنا وتصحيح مساراتنا نحن الآخرين. فمثلا لا يصح أن يواجه نظام عبد الناصر معارضيه من الإخوان المسلمين، فى منتصف الستينيات، بحسم يتطرف أحيانا للعنف والقسوة، ثم نأتى نحن بعد نصف قرن، لنرث خلافات الناصريين والإخوان بسبب تكاسل زعماء الطرفين عن مراجعة التاريخ واعادة الحكم على الاحداث وظروفها والاعتذار والمصالحة من الطرف المسئول. المراجعات واجبة على الناصريين تماما مثلما فعلت الجماعات الإسلامية فى التسعينيات. على نفس المنوال.. أن تترك قيادات الإخوان الثوار وحدهم فى الميدان ليجتمعوا بعمر سليمان للتفاوض السرى، ثم يرضون معه بالدنية (فقط الحصول على حزب وإشهارالجماعة واطلاق سراح الشاطر ومالك) كل ذلك غدرا بالوطن والرفاق المرابطين تحت جنازير الدبابات.. كان هذا كسرا لشوكة الثورة سهل للطرف العسكرى إخلاء الميدان ساعة أن أراد الجيش، ووضع حدا لتفاعلات الثورة الشعبية، وخفض سقف طموحاتها لتنحصر فى مجرد إنقلاب عسكرى حقير على مبارك..أو شىء أشبه بهذا.. هذا الوضع كاد يسحق الإخوان أنفسهم الشهر الماضى باحتمال عودة شفيق للحكم، لولا وقوف بعض من خانوهم من الثوار والشعب معهم، انقاذا لما تبقى من الثورة، وبناء على عهود يتقاعسون اليوم فى الوفاء بها من جديد. جاءت هذه النتيجة المؤسفة بعد سلسلة متواصلة من خيانات الإخوان للثوار على مدى عام كامل ضاعت فيه حقوق من استشهدوا وأرواح أخرى وعيون وإصابات كثيرة. شهور مرت كالدهر نزف فيها الوطن الغالى فى ماسبيرو وشوارع محمد محمود ومجلس الوزراء وبورسعيد والعباسية.. ما كان أغنانا جميعا عنها لولم يخونوا، وما أخطر المستقبل لولم يراجعوا ما كسبت أيديهم، ويعتذروا ويصدقوا العهود لنبدأ صفحة جديدة خلف رئيس منهم. لهذا لا أرى بديلا لأن نقف جميعا لنراجع أخطاءنا قبل الإتيان بالمزيد منها. فعلا كفاية. على المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يتحلى بشجاعة الفرسان اللازمة للنقد الذاتى والتراجع عن لعب السياسة فى غير موضعها. لا يصح أبدا احتجازه لرجاله مزايا فئوية نظير «حمايتهم للثورة» من خلال اقحام نصوص مكملة على الإعلان الدستورى، أوالمقايضة بعمل تشكيل جائر لمجلس للدفاع الوطنى غيلة وساعات قبل قدوم رئيس مدنى منتخب، استلابا لصلاحياته (حتى لوبمباركة المحكمة الدستورية وبتصفيق الإعلام). كل ذلك بعد أن يتم حصر الخيارات للشعب المسكين بين الإسلام السياسى (بكل الفزاعات الممكنة منه وحوله) أو استعادتهم لنظام مبارك (بكل شراسة الانتقام ) أو...الانفلات الأمنى المرعب الذى تدور عجلاته وأنا أكتب هذا الحديث.. هذه أشياء لا تصح. ساقنا بعض أعضاء المجلس من القادة العسكريين (ولا أقول الكل) لأعتاب الحرب الأهلية أكثر من مرة ولكن حمانا الله بصوت العقلاء فيهم. فلينصتوا لهذا الصوت وأمثاله وليرجعوا لجادة الصواب من خلال مراجعات صادقة. تلوث أيادى البعض منهم بدماء المواطنين مع قيادات الشرطة إبان ال18 يوما الأولى من الثورة. كان هذا مفهوما ومبررا وقتها وكان، ومازال، ممكنا الصفح عنه. لكن غير المبرر تصحيح الخطأ بخطأ وتأليب جنود الجيش على الثوار، ومهاجمة وقتل فصائلهم باختراع بعبع سخيف اسمه «الطرف الثالث» ظهر أولا لضباط الجيش المتضامنين مع الثوار فجر 9 أبريل ثم للثوار الأقباط فى ماسبيرو9 أكتوبر وللمتضامنين مع المصابين وأسر الشهداء فى محمد محمود ومجلس الوزراء فى نوفمبر وديسمبر والألتراس فى بورسعيد 1 فبراير وآخيرا للسلفيين فى العباسية 2 مايو. كل هذا مع السماح الكامل للنظام القديم بإعادة تنظيم صفوفه ليكاد يعود للسلطة قبل أسابيع مضت وكاننا مجرد أطفال أغبياء سرقوا منهم لعبتهم. لقد كنت اتعجب لممارسات للجيش مثل دعمهم لتوفيق عكاشة، أو اختراع تحالفات شبابية وهمية ليجتمعوا بها فى مسرح الجلاء، بعد إشاعة تعذر الوقوف على مطالب الثوار لتفرقهم لمئات الائتلافات.. لكن باستخدامهم لأحزاب مبارك الكرتونية فى دعم وشرعنة مطالب الجيش أدركت اننا أمام لعبة الثلاث ورقات.. وفين السنيورة - أو فين الثورة؟ ليس من حقنا أو قدراتنا أن نحاسب من عالج خطأ انصياعه لأوامر مبارك (أو جمال وسوزان) بخطأ أكبر لكن ممكن التصحيح بمراجعات وتحقيقات داخلية لتجنب المزيد من العنف أو الاحتقان المتصاعد بين الشعب وجيشه ومنعا للهتاف الموجع للطرفين «يسقط يسقط حكم العسكر». قصاص ما يجب أن يتم فورا لتستقيم الأوضاع ونحن أسابيع قبل الذكرى السنوية الأولى لمحمد محسن شهيد العباسية الأول فى 23 يوليو وقبل أن تكرر المذبحة الشهور القادمة مع توالى ذكرى المذابح التالية. القصاص ليس فقط سنة الله وشرطه فى مثل هذه الحالات ( ولكم فى القصاص حياة يا أولى الألباب ) ولكن لاننا لن نبنى دولة مستقرة بغير أمن، وهو ما يحتاج لوزارة داخلية من الرجال الشرفاء المنضبطين بتطهير الداخلية ممن ساندوا النظام القديم وهومستحيل بغير تطهير القوات المسلحة من زملائهم المخطئين أيضا. التستر هنا على المتورطين جريمة قانونية وحمايتهم بالمزيد من القوانين، أو بشيطنة الإسلاميين والتشكيك فى الثوار للانقلاب عليهم والحكم المباشر للعسكريين، لن يحمى الوطن.. ولن يحل المشاكل. لقد خضع رجال الجيش والشرطة لنفس القيادة العليا الفاسدة لسنوات طويلة ونفذوا نفس الخطط لوأد الثورة بنفس الأوامر، لكن بتراجع مبكر للجيش أنقذ صورته وفضيحة أكبر للشرطة صعب تغطيتها. آن أوان غلق هذا الملف بغير الحاجة للمزيد من الضحايا أو لجان تقصى الحقائق الرسمية الصورية التى لن تأتى بجديد ما لم يقرر أولى الأمر كشف المستور وعلاج المكسور. الوقاية هنا خير من العلاج لاحقا، وبدلا من المزيد من الحروب الإعلامية والقانونية بالوكالة، أوتفخيخ الدستور لتفجير الوطن الذى أقسمتم على حمايته. تنحية المسئولين المباشرين عن عنف مواجهات الثورة واستعمال القناصة (جيش أوشرطة أوغيرهما) بمحاكمات داخلية، قد تؤذى البعض منهم، لكنها بالتأكيد ستنقذ الوطن، وتمنع عنه المزيد من المشاكل فى المستقبل.. يستحيل المضى بغير المصالحة الوطنية الصادقة وسواء ذهبنا لشرع الله المبسط (بالقصاص أوالدية العلنية) أوحتى للمحكمة الجنائية الدولية (التى سيصعب على مرسى التصديق عليها لهذا السبب) فى الحالتين النتيجة واحدة: يجب المحاكمة العادلة أولا قبل التفاهم حول المصالحة الوطنية.. يجب أن يتحمل من أخطأ مضطرا من القادة الأمنيين (جيش أوشرطة) مسئوليته، ويعتذر للضحايا وأهلهم...وشعبنا طيب ومتحضر وسيسامحهم حقنا للمزيد من الدماء نشر بالعدد 605 تاريخ 16/7/2012