لو كان ما حدث في مصر من إضرابات خلال العامين الماضيين في بلد آخر به حكومة تحترم الناس، لما مرَّ مرور الكرام، ولانخرطت المراكز البحثية في دراسة ما جري والخروج بتوصيات وتفسيرات له. لكن أحدا لم يهتم أو يدرس الأسباب الحقيقية لما حدث ويحدث، واكتفت الحكومة باعتبار أن ما حدث صادر من "شوية عيال" لا يعرفون مصلحتهم ولا يدركون مصلحة البلد، وتقف وراءهم - كالعادة طبعا - قوي مشبوهة تمدهم بالمال والأفكار والسلاح! ورغم تجدد الدعوة، ونجاح "شوية العيال" الذين يدعون لها في حشد تيارات سياسية أخري وراءهم، إلا أن أحدا لم يفكر أيضا في دراسة ما يجري والبحث عن حلول علمية لا تكتفي بالعقاب وإنما تبحث عن العلاج. ولا شك أن ما يحدث فيه إدانة للحكومة، فعندما تحشد دولة قوتها الضاربة وتعلن حالة التأهب القصوي لمواجهة دعوات للإضراب انطلقت من الإنترنت، فهي دولة هشة تقاوم السقوط بمزيد من السقوط. وهذا ما حدث يوم 6 أبريل الماضي، الذي دعا فيه شباب افتراضيون - نسبة إلي العالم الافتراضي علي شبكة الإنترنت - إلي الإضراب العام إحياءً للذكري السنوية لإضراب 6 أبريل 2008، وهي دعوة عبثية، واجهت معارضة من داخل صفوف الداعين لها أنفسهم، ولكنها وجدت مساندة من بعض الأحزاب والقوي السياسية الذين يبحثون عن مساحة في الشارع السياسي وتصوروا أنهم قد يجدونها عبر الشبكة العنكبوتية. ومنذ البداية، كانت الدعوة للإضراب تحمل كثيرا من الخلط وربما عدم الفهم وعدم الخبرة، وقد ظهر ذلك بجلاء في الأحداث المؤسفة التي شهدتها المحلة الكبري العام الماضي، عندما فشل الإضرابيون الجدد في السيطرة علي المتظاهرين وكادت تحدث كارثة لكن الله سلم. ورغم ذلك فقد تجددت الدعوة إلي إضراب آخر بعدها بشهر تقريبا، كما لو كان ما حدث من تخريب لا يكفي، ثم تجددت الدعوة هذا العام، وكأن الهدف هو اللعب بمصير وطن وشعب يئن ويعاني، واللعب بمصائر الشعوب والبلاد أخطر أنواع اللعب. والملفت أن هؤلاء الذين يلعبون بمصير الوطن ليست لديهم خبرة ولا كفاءة ولا دراية ولا قدرة علي قيادة هؤلاء الذين يدعونهم للإضراب، وأنا شخصيا لست أدري ماذا يريد بالضبط هؤلاء "الإضرابيون" الجدد، الذين يخلطون بين الإضراب والتظاهر، ولا يملكون أي مقوم من مقومات الخطاب السياسي أو حتي الثقافي، ونظرة سريعة إلي لغتهم التي يصيغون بها مطالبهم أو دعواتهم للإضراب توضح إلي أي مدي ليست لديهم رؤية ولا ثقافة ولا دراية بما يفعلون. والأزمة الحقيقية ليست في هؤلاء، ولكن في أحزاب وقوي سياسية من المفترض أنها تملك الخبرة والدراية والحنكة السياسية، لكنهم رغم ذلك يتبعون هؤلاء المضربين الجدد ويحاولون حشد الغاضبين خلفهم، وهو دليل علي فقر هؤلاء وإفلاسهم ومعرفتهم حقيقة قدرتهم علي التأثير، فهم لا يستطيعون حشد المؤيدين لهم ولذلك يحاولون استغلال المضربين الجدد لتوهمهم أنهم قادرون علي حشد آلاف المؤيدين! أما الحكومة فقد أثبتت فشلا ذريعا في التعامل مع شباب لهم مبرراتهم الخاصة للتعبير عن غضبهم وإحباطهم مما يرون ويسمعون.. وكان عليها - أي الحكومة - الانتباه لحالة الغضب العامة عند الشباب الإلكترونيين - لو جاز التعبير - خاصة أن الحكومة نفسها توصف بالإلكترونية. وكان علي الحزب الذي يدعي أنه "وطني" البحث عن حلول علمية لحماية هذا الوطن وشبابه، ودراسة أسباب لجوء الإضرابيين الجدد إلي هذه الوسيلة، والدخول في حوار معهم لامتصاص شحنات الغضب المتزايدة لديهم وإشعارهم بأنهم يعيشون في بلدهم وليس في بلد نهبه الأثرياء ولم يتركوا لأهله حتي القدرة علي الصراخ. فالعيب إذن ليس علي الإضرابيين الجدد، ولكن علي دولة هشة، وحكومة فاشلة، ونظام يسمح للفساد بالانتشار وللفاسدين بمزيد من الفساد. [email protected]