فى الحلقة الماضية تحدث الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت عن عقائد الإسلام الأساسية التى هى التوحيد، الإيمان بالغيبيات، الإيمان بالرسل، الإيمان بما تضمنته الرسالات. والإسلام حينما يطلب من الناس أن يؤمنوا بتلك العقائد، لا يحملهم عليها إكراها، لأن طبيعة الإيمان تأبى الإكراه، ولا يتحقق إيمان بإكراه، وقد جاء فى القرآن: «لا إكراه فى الدين» (لبقرة: 256). وجاء فيه خطاب لنبيه محمد: «ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» (يونس: 99). وكذلك لا يحملهم عليها عن طريق الخوارق الحسية، التى يدهش بها عقولهم، ويلقى بهم فى حظيرة الاعتقاد دون نظر واختيار: «إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين» (الشعراء: 4). والمعنى أنا لا نشاء ذلك، لأنا نريد منهم إيمانا عن تقبل واختيار. لا يحملهم عليها بالإكراه، ولا يحملهم عليها بالخوارق، وإنما يحملهم عليها بالبرهان الذى يلمأ القلب. وعلى هذا المبدأ، عرض القرآن عقائد الإسلام عن طريق الحجة والبرهان. وكانت حجته التى استلفت الأنظار إليها فيما يتعلق بعقيدة الإله «وجودا ووحدانية وكمالا» دائرة بين النظر العقلى، وبين ما يجد الإنسان فى نفسه من الشعور الباطنى، والإحساس الداخلى. وفى سبيل الحجة العقلية طلب إليه النظر والتفكير فى هذا الكون.. فى أرضه وسمائه، وما أودع فيه من أسرار، وبنى عليه من نظام وإحكام، وأفرغ عليه من وحدة جعلته متماسك الحلقات.. الأمر الذى يحيل فى نظر العقل صدور الكون عن نفسه، أو عن قوى متضادة متعارضة، ويوجب فى الوقت نفسه الاعتراف القلبى بأنه لابد لهذا الكون البديع المتسق المترابط السائر بحكم نظام واحد لا يلحقه خلل ولا انتكاس من مصدر خالق مدبر له، مهيمن عليه، متصرف فيه عن طريق العلم الشامل، والقدرة النافذة، والحكمة البالغة، وأن هذا الكون سائر بتدبير هذا الخالق إلى الغاية التى حددها له بعلمه وحكمته.. وعندئذ يفعل به ما يشاء مما أرشدت إليه كتبه، ودل عليه وحيه لأنبيائه ورسله، من ظواهر انحلاله وفنائه التى كثر الإخبار بها فى القرآن. وتجىء بعدها الدار الآخرة: «إذا السماء انشقت، وإذنت لربها وحقت، وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت» (الانشقاق: 1 4)، «إذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت، وإذا البحار فجرت، وإذا القبور بعثرت، علمت نفس ما قدمت وأخرت» (الانفطار: 1 5). «وإذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبار سيرت، وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت، وإذا البحار سجرت، وإذا النفوس زوجت، وإذا الموءودة سئلت، بأى ذنب قتلت، وإذا الصحف نشرت، وإذا السماء كشطت، وإذا الجحيم سعرت، وإذا الجنة أزلفت، علمت نفس ما أحضرت» (التكوير: 1 14). وهذا الطريق هو أكثر ما أرشد القرآن إليه، ولا نكاد نرى سورة من سوره إلا وفيها كثير من الإرشاد إلى هذا الطريق، والدعوة إلى التفكير فيه، والحث عليه. «إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب والمسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون» (البقرة: 164). «وفى الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض فى الأكل إن فى ذلك لآيات لقوم يعلقون» (الرعد: 4). «والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون، والأرض فرشناها فنعم الماهدون، ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون» (الذاريات: 47 49). وفى سبيل الشعور الباطنى، والوجدان النفسى، يرشدنا القرآن، ويسترعى أنظارنا إلى حقيقة نفسية واقعية، تعبر عن قبس الإيمان بوجود الخالق ووحدانيته، وعن فطرية الشعور الدينى فى نفس الإنسان، وتتمثل فى ذلك الإحساس الداخلى الذى يحسه الإنسان من نفسه حينما يتحرر من سلطان الوهم والهوى، ويتفلت من حكم المادة المظلمة، أو عندما يفاجأ بالسؤال عن مصدر هذا الكون، أو عندما تنزل به شدة تحيط به، ولا يرى فيما يقع حسه طريقا للخلاص منها. وفى سبيل ذلك يقول القرآن: «ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم» (الزخرف: 9). ويقول: «وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض» (فصلت: 51). «وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور» (لقمان: 32). (وهو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين» (يونس: 22).