بعض الكلام الذى يصدر عن تل أبيب بخصوص السياسة المصرية يسىء إليها ويتطلب من القاهرة تصويبا وردا يعالج آثار البلبلة التى يحدثها، لأن استمرار الصمت إزاء ذلك الكلام، الذى يعمم باعتباره تصريحات أو تسريبات يشوه كثيرا الموقف المصرى، ويعطى انطباعا بصحة ما انطوت عليه من ادعاءات خطيرة. سأضرب مثلا بنموذجين لهذه الحالة وقعت عليها فى الآونة الأخيرة، وأدهشنى مضمونهما، الذى بدا غير قابل للتصديق.. ولذلك احتفظت بهما فى ذلك الحين، وانتظرت أسبوعا واثنين، على أمل أن أجد ردا أوتعليقا عليهما، سواء من وزير خارجيتنا الهمام الذى عهدناه لاذعا ومستأسدا فى تعريضه بالناقدين والمخالفين العرب، أو من «المصدر المسئول»، الذى ما برح يطلق التصريحات النارية بحق أولئك الناقدين، لكنى لم أسمع لأى منهما صوتا. النموذج الأول نشرته صحيفة هاآرتس فى 27 يناير الماضى تحت العنوان التالى: مسئول فى وزارة الدفاع يقول: مصر تعتبر حماس عدوا.. وتحت العنوان ذكر التقرير المنشور، المنسوب إلى مصادر الجريدة ووكالة رويترز للأنباء، أن اللواء عاموس جلعاد رئيس القسم السياسى فى وزارة الدفاع الإسرائيلية ذكر بعد عودته من القاهرة واجتماعه مع المسئولين فيها أن مصر تعتبر حركة حماس بمثابة عدو لها يشكل تهديدا لنظامها.. وأضاف الرجل أن المسئولين الذين التقاهم أبدوا «تفهما شديدا» للحملة العسكرية التى قامت بها إسرائيل فى القطاع.. وأن مصر بهذا الموقف غير المسبوق على حد تعبيره تثبت موقفا شديد الحزم إزاء حركة حماس، الأمر الذى يعنى أنها أصبحت غير مستعدة لأن تقدم لها أى شىء من مطالبها، خصوصا فيما يتعلق بفتح معبر رفح «الوحيد الذى يربط القطاع بالعالم الخارجى دون أن يمر بإسرائيل».. أضاف جلعاد أن التشدد المصرى إزاء مسألة تهريب السلاح أدى إلى التطابق فى وجهات النظر مع الرؤية الإسرائيلية، الأمر وفر فرصة جيدة للتفاهم والفهم المشترك بين الطرفين، وانطلاقا من ذلك التفاهم فإن إسرائيل سوف تضرب بيد من حديد أى محاولة من جانب حماس لتهريب السلاح إلى القطاع. النموذج الثانى تضمن كلاما غريبا لأحد كبار المعلقين فى صحيفة يديعوت أحرونوت، اليكس فيشمان، فى التقرير الذى نشرته الصحيفة أثناء الحرب على غزة «فى 15 يناير» فقد ذكر فيشمان أن مسئولى وزارة الدفاع «الإسرائيلية» أصبحوا يتبادلون الابتسامات بعدما أدركوا أنه لو كان الأمر منوطا بحماس لاتفقت مع عاموس جلعاد لوقف إطلاق النار، لأن مصر هى التى أصبحت تتشدد معها.. واستشهد فى ذلك بادعائه أن مسئولى المخابرات المصرية الذين يتباحثون مع ممثلى حماس يعرضون عليهم شروطا متصلبة تدعوهم إلى الاستسلام بلا شروط.. وهذه الضغوط المصرية هى التى أصبحت تؤخر وقف إطلاق النار فى غزة، لأن مصر أصبحت تريد شيئا واحدا هو إعادة أبو مازن إلى القطاع، والاعتراف بالتمديد له كرئيس للسلطة، الأمر الذى لا يفسر إلا بحسبانه محاولة لإلغاء دور حماس فى غزة، وهذا ليس مطلبا إسرائيليا فى حقيقة الأمر، وليس واضحا ما إذا كان لها مصلحة فى ذلك أم لا، ولكنه مطلب مصرى يريد الخلاص من حماس والذهاب بها إلى الجحيم. فى ختام تعليقه قال معلق يديعوت أحرونوت: المسألة الآن ليست فيما إذا كانت حماس مستعدة للوفاء بمطالب إسرائيل، وإنما فيما إذا كانت مستعدة للاستجابة للمطالب المصرية الأكثر تشددا (!). لا يشك أحد فى سوء نية الإسرائيليين وخبث مقاصدهم، وسعيهم الدائم للوقيعة والكيد.. ذلك مفهوم بطبيعة الحال، لكن حينما يُنشر كلام من هذا القبيل منسوب إلى سياسة مصر وموقف مفاوضيها، فينبغى أن يرد عليه، وألا يترك ليشيع بين الناس بكل ما فيه من سموم ومعلومات صادمة.. لا نتطلع إلى عنترية من ذلك الطراز الذى تحدثت به الخارجية المصرية عن السيد حسن نصر الله، ولكننى تمنيت أن ينبه أى ناطق فى مصر إلى أن المشكلة ليست مع حماس ولا فى تهريب السلاح، ولكنها أصلا وأساسا فى العدوان والاحتلال.