ما أن نجح فى الثانوية وعلت الزغاريد فى البيت، حتى شد أحمد سعد الرحال من قريته بمحافظة الدقهلية إلى القاهرة ليلتحق بأحد مراكز التأهيل العسكرى الخاصة التى طالما سمع عنها كثيرا من قبل وعرف من إعلاناتها أنها البوابة السحرية التى يمكن أن يحقق من خلالها حلمه فى الالتحاق بكلية الشرطة. الخيارات أمام أحمد كانت كثيرة ومُحيرة فى بادئ الأمر، فالدعاية الخاصة بهذه المراكز تحمل فى معظمها عبارات رنانة من قبيل: «فرصة القبول على أيدينا 100% لأننا ننفرد بالخبرة»، «نحن المركز الوحيد المعتمد فاحذر من يدعى الاعتماد غيرنا فنحن المعتمدون»، «نحن أصل التأهيل الرياضى فى الشرق الأوسط»، «نعالج الفلات فوت وتقوس الساقين والتصاق الفخذين ونزيد مقاس الطول والصدر». كان على الطالب القادم من الأرياف لكى يحقق حلمه بالحصول على «وظيفة مضمونة بمرتب ومعاش مضمون، تؤمن مستقبله وتوفر له مكانة اجتماعية مرموقة» أن يحسم أمره بسرعة. وهكذا قرر الالتحاق بواحد من أشهر هذه المراكز وأكثرها قدرة على الدعاية، خاصة بعدما قرأه فى إعلاناتها عن أنها توفر إقامة للمغتربين نظير مقابل إضافى. أحمد هنا ليس إلا نقطة فى بحر واسع يتجدد سنويا من عشرات الآلاف من خريجى الثانوية العامة والأزهرية والدبلومات الفنية المنتشرين بطول البلاد وعرضها، يحلمون بالدراسة فى الكليات العسكرية. وهذا الحلم الطاغى الذى يسيطر على أحمد وبقية هذه الأعداد الغفيرة من زملائه هو ما يخلق سوقا رائجة لبيزنس مراكز التأهيل العسكرى. أصول التأهيل العسكرى تأسيس مركز تأهيل عسكرى خاص لا يحتاج عادة، كما يقول صاحب أحد المراكز الشهيرة، أكثر من تأجير شقة وعدد من ملاعب وحمامات السباحة أندية ومراكز الشباب، بالساعة غالبا، وطبع كميات كبيرة من ملصقات وأوراق الدعاية وتوزيعها على الطلبة أو تعليقها ولصقها على الجدران ووسائل المواصلات، وبذلك يمكن للمركز الواحد أن يستقطب آلاف الطلاب. وتتراوح قيمة ما تتقاضاه هذه المراكز عن الطالب الواحد ما بين 250 و350 جنيها، وهو ما قد يصل بإجمالى الأرباح فى الموسم الواحد إلى ملايين الجنيهات، بداية من نهاية امتحانات الثانوية، وحتى موعد إغلاق باب التقديم ونهاية الاختبارات فى الكليات العسكرية فى 13 أغسطس تقريبا. لكن هل تقدم هذه المراكز خدمة جادة وحقيقة تساوى ما تجمع من ملايين، أم أن الأمر ينطوى على نصب ورغبة فى المكسب السريع، كما يذهب آخرين؟ تجهيز ملف الطالب فى مجمع ملاعب مدرسة السعيدية الثانوية بالجيزة، كان أحمد وأكثر من 1000 طالب آخر يقومون بالتدريب، بينما كان الكابتن الروبى، صاحب المركز، يؤكد مؤهلاته العلمية بداية من بكالوريوس التربية الرياضية عام 1994 وحتى ماجستير علم التدريب، ويتحدث عن الخدمات التى يقدمها لتأهيل الطلبة للالتحاق بالكليات العسكرية، والاختبارات والتدريبات المطابقة لما يحدث فى الكليات. برنامج الروبى مدته شهر، «يبدأ بإجراء كشف طبى للتأكد من صلاحية الطلبة والاكتشاف المبكر لما يمكن علاجه لديهم من أمراض، ثم يأتى التدريب على الاختبارات الرياضية فى اللياقة البدنية والسباحة وقفزة الثقة، لنصل بعد ذلك إلى تأهيل الطالب لاجتياز الاختبارات النفسية وكشف الهيئة بتدريبه على الأسئلة التى سيواجهها والتأكيد على رغبته الداخلية فى دخول الكلية وزيادة ثقته بالنفس، هذا فضلا عن مساعد الطالب على تجهيز الملف الذى سيتقدم به للكلية». بالنسبة لأحمد وكثيرين مثله من الطلبة الذين لم يمارسوا أى نشاط رياضى مُنظم من قبل، ولم يحصلوا على قدر كبير من الخبرات الحياتية بعد، يبدو البرنامج الذى يقدمه الكابتن الروبى مفيدا ومساعدا إلى حد كبير. يقول أحمد الذى لم يمض على تدريبه إلا أسبوع «الأكاديمية تضيف إلينا وتزيد من تأهيلنا ولياقتنا.. ومتهيأ لى إن الفلوس إللى دفعتها باستفيد بيها». نفس المعانى أكدها طالب آخر، وإن كان أشار إلى أن «الفلوس غالية شوية». «ينتقل الروبى من الحديث عن الخدمات التى يقدمها إلى الهجوم على بقية المراكز الأخرى العاملة فى نفس المجال، واصفا إياها بأنها «مراكز بير سلم، لا تحتاج لأكثر من تأجير شقة وشوية ورق دعاية، وتقرأ إعلاناتها تشعر أنها إيه؟! وتدعى أنها الوحيدة المعتمدة وتعطى الأولوية فى دخول الكليات العسكرية وتعتمد فى الصراع فيما بينها على البلطجية.. وللأسف الطالب إللى بيلاقيه قدامه بياخده وما عندوش فرصة للمقارنة.. ومفيش جهة رقابية تنظم عملها». إنها «قوانين البلطجة والنصب والعك»، التى تحكم هذه المهنة كما يقول الروبى، لكن فى ظل عدم وجود جهة رقابية متخصصة ومحايدة لا يمكن تبرئة أحد تماما من هذه التهم أو بعضها على الأقل. الكابتن روبى نفسه يستخدم فى دعايته مثلا عبارات ضخمة كما يفعل منافسوه، من قبيل الإشارة إلى أن «أكاديمية الروبى هى الوحيدة المعتمدة بالشرق الأوسط فى التأهيل العسكرى» و«فرصة القبول على أيدينا 100%»، والتبرير الذى يكرره هو أنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن قام به الآخرون. البلطجة لجذب الزبائن فى أحد مقار التدريب الخاصة بأحد مراكز التأهيل العسكرى بالقرب من ميدان عبدالمنعم رياض، كانت هناك مجموعة صغيرة فقط من الطلبة لا يزيد عددها كثيرا على عشرة، وهو ما فسره الكابتن وليد خاطر صاحب المركز، بزيادة عدد المراكز العاملة فى التأهيل العسكرى وضعف الدعاية التى يقوم بها. «ضعف الدعاية» هنا يعود فى جزء منه إلى «الدعاية الأبسط» التى يقوم بها مقارنة بدعاية الآخرين التى تمتلئ، على حد قوله، «بمبالغات لا تعبر إلا عن الرغبة فى المكسب السريع والنصب، من قبيل أننا نعالج التشوهات القوامية وتقوس الساقين والتصاق الفخذين وتفلطح القدمين». يعترف وليد الذى يقوم الآن بتحضير دكتوراه فى التربية الرياضية بهذه المبالغات. «هذا كلام لا يصح أن يقال على إطلاقه لأنه وإن كانت التشوهات الخلقية من الدرجة الأولى يمكن علاجها بشكل طبيعى، فإن تشوهات الدرجة الثانية والثالثة لا يمكن علاجها إلا بعمليات جراحية». ومن بين المغالطات التى يشير إليها الكابتن وليد أيضا فى دعاية المراكز الأخرى، أنها تعتمد على الإشارة إلى أنها مُعتمدة أو الوحيدة المعتمدة، «يعنى إيه معتمد؟ معتمد هنا لابد أن تعنى أنهم معتمدون داخل الكليات العسكرية والشهادات التى يمنحونها لها معنى هناك، وهذا غير متحقق فى أى من هذه المراكز». ويشير معظم الطلبة الذين يتدربون مع الكابتن وليد إلى نفورهم من هذه النغمة السائدة فى دعاية هذه المراكز، إلا أن هؤلاء الطلبة ليسوا إلا أقلية فى مقابل أعداد هائلة ربما لا تملك مثل هذه القدرة النقدية. الخطير أيضا هو ما يشير إليه وليد عن أن ضعف الدعاية الخاصة به لا يعود فقط إلى طبيعتها، وإنما حرمانه من توزيع هذه الدعاية من خلال بلطجية تابعين لمراكز أخرى. يقول وليد: «أنا أعانى لأنى مش جايب بلطجية ولا مُسجلين خطر، فى الوقت الذى يستعين بهم المنافسون لكى لا يقوم أحد آخر بتوزيع دعايته وينفردوا هم بأكبر عدد من الطلبة ويحصلوا على أكثر ربح». «فى العام الماضى تعرض رجالى للبلطجة أمام الكلية الحربية التى تشهد منافسة ضارية لاجتذاب الطلبة، وأخذ البلطجية أوراق الدعاية الخاصة بنا منهم، وقالوا لهم ما فيش توزيع هنا». «البطلجة السنة دى زادت بوضوح عن العام الماضى وهى فى تصاعد ملحوظ، لذلك فى حين كان لدى 200 طالب العام الماضى، تناقص هذا العدد بشكل كبير الآن». رقابة غائبة يتفق الكابتن وليد مع الكابتن الروبى حول ضرورة وجود جهات رقابية تتابع عمل هذه مراكز التأهيل العسكرى وتنظمها، يقول د. مسعد سيد عويس نقيب المهن الرياضية والأستاذ بكلية التربية الرياضية، إن النقابة طبقا لقانون إنشائها رقم 3 لسنة 1978 هى المخولة بالإشراف على كل الأنشطة الرياضية والمُدربين والإداريين القائمين بها، وأنه لابد لهذه المراكز أن تحصل على ترخيص من النقابة بعد توافر اشتراطات كوجود مكان محدد وإجراء كشوفات طبية على المتقدمين.. إلخ. إلا أن نقيب المهن الرياضية أشار أيضا إلى أن النقابة ليست على دراية بهذه المراكز ولا تشرف عليها حتى الآن لأنها «مؤقتة وموسمية وتعمل فى فترة قبول الكليات العسكرية لطلاب جُدد»، محذرا فى الوقت نفسه من أن تكون هناك خطورة صحية من بعض ما تقوم به من ممارسات، كالكلام مثلا عن زيادة الطول وإنقاص نسبة كبيرة من الوزن فى فترة قصيرة. وفى حين كشف د. عويس ل«الشروق» عن نيته مقاضاة هذه المراكز التى تعمل دون إذن من النقابة، انتقد أيضا مراكز الشباب والأندية التابعة للمجلس القومى للرياضة التى تؤجر لهذه المراكز أرضها ومبانيها وتتركها تعمل فيها كما تشاء، مشيرا إلى أن ذلك مخالف للقانون ولا يعفيها من المسئولية، لأن مراكز الشباب والأندية يجب أن تشرف على كل ما يجرى على أرضها من أنشطة رياضية. وطالب د. عويس، وهو نجل عالم الاجتماع الراحل د. سيد عويس، أولياء الأمور والطلبة الذى يفكرون فى دخول الكليات العسكرية بالبدء فى الإعداد لذلك منذ مرحلة الإعدادية «لأن عملية الإعداد الصحيح لا يمكن أن تتم خلال أسبوعين»، مع الاتجاه إلى البرامج التى تعدها كليات التربية الرياضية. وانتقد حرص أولياء الأمور على أن ينكب أبنائهم طوال فترات الدراسة على المذاكرة فقط دون أن ممارسة أى أنشطة رياضية.