فوز النائب محمد عطية الفيومي برئاسة لجنة الإسكان والمرافق بمجلس النواب    محافظ شمال سيناء يضع أكليلًا من الزهور على قبر الجندي المجهول بالعريش    محافظ المنوفية يتابع تطوير الطرق في مركزي قويسنا والشهداء    «بادما» البولندية تخطط لإنشاء مجمع صناعي لإنتاج الأثاث بمدينة العلمين الجديدة    الزراعة تطلق 7 منافذ متنقلة لبيع منتجاتها بأسعار مخفضة في القاهرة    مؤشرات البورصة تواصل تراجعها بمنتصف تعاملات الأربعاء    وزير التعليم العالي يناقش مع وفد جامعة أبردين البريطانية فتح فرع في مصر    غرفة الصناعات الغذائية تشارك للعام الثالث في مهرجان النباتات الطبية والعطرية بالفيوم    مجلس الوزراء يؤكد حتمية الوقف الفوري لإطلاق النار في لبنان وقطاع غزة    صحة غزة: 51 شهيدا و82 مصابا جراء مجازر الاحتلال بخانيونس فجر اليوم    رئيس أركان حرب القوات المسلحة يلتقي قائد قوات الدفاع الشعبية بدولة أوغندا    كواليس مثيرة حول استبعاد حسام حسن ل إمام عاشور من منتخب مصر    أرسنال يلاحق ريال مدريد في سباق نظافة الشباك بدوري الأبطال    مصرع طفل غرق في مياه ترعة بمنطقة العياط    الدقهلية: افتتاح منفذي حي شرق المنصورة الدائم وشارع عبدالسلام عارف لتوفير السلع الغذائية    ضبط شركة إنتاج فنى بدون ترخيص بالقاهرة    اكتشاف حجرة دفن ابنة حاكم إقليم أسيوط بمقبرته بجبل أسيوط الغربي    4 عروض مسرحية.. فعاليات اليوم الثاني للدورة السابعة لمهرجان أيام القاهرة الدولي للمونودراما    معرض الشارقة الدولي للكتاب يحتفي بمعارف وثقافات العالم في دورته ال43 تحت شعار «هكذا نبدأ»    انخفاض أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأربعاء بالأسواق (موقع رسمي)    كواليس مثيرة حول استبعاد حسام حسن ل إمام عاشور من منتخب مصر    عبد الواحد السيد: "ضربت هذا اللاعب في مباراة الأهلي بسبب تكرار خطأ"    محمد فاروق: الأهلي يجهز عرضين لفك الارتباط مع معلول    "خبر سار".. نائب رئيس الزمالك يكشف مفاجأة بعد التتويج بالسوبر    شوبير يكشف حقيقة سفر كولر دون إذن الأهلي ويوضح تفاصيل الخلافات    حقيقة توقيع محمد رمضان عقوبات على لاعبي الأهلي    معلومات الوزراء: معدل بطالة الشباب عالميا سينخفض على مدى العامين المقبلين    السيسى يهنئ رؤساء غينيا وكوريا وتوفالو بيوم الاستقلال والتأسيس الوطني    كل الآراء مرحبٌ بها.. الحوار الوطني يواصل الاستماع لمقترحات الأحزاب والقوى السياسية حول ملف دعم    الداخلية: ضبط 668 دراجة نارية لعدم ارتداء الخوذة    النيابة تعاين عقار رأس التين المنهار بالإسكندرية وتصرح بدفن الضحايا    مصرع عامل في حادث سير بسوهاج    الأجهزة الأمنية تواصل جهودها لمكافحة جرائم السرقات وملاحقة وضبط مرتكبيها    إحنا بخير    الجيش الأردني يحبط محاولة تسلل وتهريب لكميات من المواد المخدرة قادمة من سوريا    وزير الري يلتقى السفيرة الأمريكية بالقاهرة لبحث سُبل تعزيز التعاون في مجال الموارد المائية    بالفيديو.. الأعلى للثقافة تكشف تفاصيل التقدم لجائزة الدولة للمبدع الصغير    عالم بالأزهر الشريف: «لو فيه حاجة اسمها سحر وأعمال يبقى فيه 100 مليون مصري معمول ليهم عمل»    أذكار الصباح والمساء مكتوبة باختصار    نائب وزير الصحة: إضافة 227 سريرا وحضانة لمنظومة الرعايات    الصحة: التغذية غير السليمة تؤثر سلبيًا على تفاعل الطفل مع المجتمع والبيئة المحيطة    امرأة ب«رحمين» تنجب توأمين بحالة نادرة.. ما القصة؟    «الداخلية»: ضبط 16 متهمًا خلال حملات أمنية على حائزي المخدرات في 9 محافظات    جيش الاحتلال الإسرائيلي يوسع نطاق دعوته لسكان جنوب لبنان بالإخلاء    إلهام شاهين عن الهجمات الإيرانية على إسرائيل: «أكره الحروب وأنادي بالسلام»    اليوم.."البحوث الإسلامية" يختتم فعاليات «أسبوع الدعوة» بلقاء حول الأخوة الإنسانية    «المستشفيات والمعاهد التعليمية» تحتفل باليوم العالمي لسلامة المرضى    تداول 58 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة بمواني البحر الأحمر    مع عبدالناصر والعالم أربع ساعات يوميًا لمدة ستة أشهر    رئيس هيئة الرعاية الصحية: مصر تمثل محورًا إقليميًا لتطوير خدمات الصحة    «الإفتاء» توضح حكم الشرع في إهمال تعليم الأبناء    بالصور.. نجوم الفن في افتتاح مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط    حكم زيارة قبر الوالدين كل جمعة وقراءة القرآن لهما    أمين الفتوى: الأكل بعد حد الشبع حرام ويسبب الأمراض    انتخابات أمريكا 2024| وولتز يتهم ترامب بإثارة الأزمات بدلاً من تعزيز الدبلوماسية    عاجل - أوفينا بالتزامنا.. هذه رسالة أميركية بعد هجوم إيران على إسرائيل    إعلام إيراني: أول استخدام لصاروخ فتاح الفرط صوتي في الضربة على إسرائيل    برج الدلو.. حظك اليوم الأربعاء 2 أكتوبر 2024: العند يهدد صحتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



توحشت اللا مساواة
نشر في الشروق الجديد يوم 12 - 02 - 2014

أقمت سنوات فى شارع ليبرتادور، أحد أشهر شوارع مدينة بيونس أيرس. اكتسب الشارع شهرته من سمات كثيرة أولها طوله، إذ بلغ طوله عشرة كيلومترات أو أكثر، وثانيها اتساعه، إذ بلغ اتساعه فى بعض الأحياء التى يمر بها ما يزيد على 120 مترا. ثالث سماته روعة وفخامة العمارات السكنية التى كانت تطل عليه من جانب واحد، بينما يطل هو من الجانب الآخر على حدائق شاسعة، تمتد بعيدا لتنتهى عند النهر العظيم، نهر لابلاتا. تتخلل هذه الحدائق وبين أشجارها، فى بعض أجزائها، سلسلة أكشاك، بلغ عددها فى عهدى المائة والعشرين وتعرف بأرقامها، تبيع الشواء لزبائن يتناولونه فى سندويتشات وهم جالسون على مقاعد وموائد خشبية أو متنزهون على شاطئ النهر.
قرأت منذ أيام أن الشارع صار أجمل وأروع مما كان عليه قبل ثلاثين عاما. يسكن الآن على جانبيه أغنى الأثرياء وتقوم فيه أهم المتاحف وأرقى المطاعم وأحدث «المولات» وبيوت الأزياء الراقية. مازال نظيفا. ومازال أيضا يجسد التناقض الرهيب الذى هو حال هذه المدينة الرائعة. فالشارع الذى يمثل قمة الرخاء والترف الأرجنتينى ذائع الصيت منذ مطلع القرن الماضى، كان يبدأ عند طرفه الشرقى بمحطة تنتهى عندها أو تبدأ رحلة القطارات القادمة من الريف والمتجهة إليه. هناك، عند هذا الطرف من الشارع، يلتقى لأول مرة ابن الريف، أو ابنته، القادمة من مدينة صغيرة فى سهول البامباس، بالمدينة الحلم. يقع الانبهار ولا يخفت رغم مشقة وعذاب ولا إنسانية رحلة البحث عن عمل.
•••
هنا عند هذا الطرف من شارع ليبرتادور، نزلت من أحد القطارات فتاة فى أوائل العشرينات من عمرها فى يوم حفر نفسه فى ذاكرتها وذاكرة الأرجنتينيين عموما. بل لعله بتفاصيله ومنها لحظة الانبهار التى صاحبت التقاء ابنة الريف الفقيرة بثيابها الرثة مع أضواء المدينة الصاخبة كان المصدر الذى ولد الطاقة التى فجرت الإبداع عند هذه الفتاة وأطلقت جماح طموحها. فى هذه المحطة، ولحظة وصولها، استلمها رجل ليسلمها بدوره إلى بيونس ايرس، العاصمة المرفهة ولكن عند القاع. عند هذا القاع، حيث الجوع الكافر والفقر المدقع والرجال المتوحشين، تمردت الفتاة فصعدت، واستمرت تصعد، حتى جلست على عرش الأرجنتين، سيدة أولى للبلاد، وسيدة كل الرجال.
ومن القمة حيث تربعت، لم تنس أيام بؤسها وبؤس الملايين من أبناء وبنات الشعب فراحت تصب جام غضبها المكتوم منذ ذلك اليوم الذى وطأت فيه أقدامها أرض محطة «الريتيرو» للقطارات فى مطلع شارع ليبرتادور على سكان هذا الشارع باعتبارهم أغنى أثرياء المجتمع الأرجنتينى. راحت تصادر بضائع محالهم لتوزعها بنفسها على المحتاجين، وتأخذ أموالهم لتبنى بها مصحات ومدارس لأطفال الفقراء، هؤلاء كانوا يعيشون فى عشوائيات عرفت باسم «قرى البؤس»، أقامها المهاجرون أمثالها على الطرف الآخر من الشارع. اختاروا أن يعيشوا فى بيوت من الصفيح والخشب هربا من شظف الحياة فى الريف.
•••
تذكرت حكاية ايفا بيرون، الممثلة الريفية المتواضعة التى هبطت على العاصمة بيونس ايرس، وتذكرت الشارع الذى كان أول ما وقعت عليه عيناها بعد خروجها من محطة القطارات، تذكرتهما وأنا اقرأ تقريرا عن الفجوة الرهيبة فى الدخول التى يعانى منها المجتمع الأرجنتينى هذه الأيام، وكنت قد انتهيت للتو من الاستماع إلى خطاب حال الاتحاد الذى ألقاه الرئيس باراك أوباما قبل أيام وركز فيه على «إحدى أخطر القضايا التى تهدد مستقبل أمريكا»، وهى قضية «الفجوة الرهيبة» فى دخول الأغنياء والفقراء.
تؤكد تقارير صادرة عن مراكز بحوث وجامعات غربية أن «اللا مساواة» بلغت فى معظم أنحاء العالم حدا ينذر بالخطر، وأن الفجوة الناتجة عن هذه اللا مساواة لم تتوقف عن الاتساع منذ عقد السبعينيات، وأنها، أى اللامساواة، تكاد تمثل سببا رئيسا وراء انتشار عدد من الأمراض العقلية ووراء التغيير فى سلوكيات البشر، الظاهرة التى لا ينكرها الأطباء ومنظمة الصحة العالمية ويشهد عليها المراقب العادى. وجدت شيرى جونسون، الأستاذ بجامعة كاليفورنيا بيركلى أن عددا من السلوكيات المتصلة بتفاوت الثروات منها زيادة الرغبة فى ممارسة الهيمنة تتسبب فى أمراض عقلية خطرة، وأن هذه السلوكيات تكثر بشدة فى المجتمعات التى تهتم بالمكانة والأولوية والثروة والأقدمية فى مواقع العمل. لاحظت السيدة جونسون فى دراستها زيادة كبيرة فى «النرجسية» نتيجة ممارسة الهيمنة وفرض الخضوع والخنوع على الآخرين. وفى أحيان كثيرة يصاب «المهيمن» أو «المترئس» بالهوس، أما الأشخاص الذين اعتادوا ممارسة الخنوع أو الخضوع لرؤسائهم أو لقادة فى المجتمع أو لكبار السن أو للمشاهير عموما، فهؤلاء يصابون غالبا بمرض الاكتئاب الشديد وكذلك القلق. يختارون الانعزال عن المجتمع أو التقوقع على الذات فى مواقع العمل أو فى إطار العائلة، وبعضهم، يصابون بحالات خطرة من «الاضطراب الوجدانى ثنائى القطب» Bipolarism.
لاحظت الدراسة أيضا انه فى المجتمعات التى تتسع فيها الفجوة بين الأغنياء والفقراء تزداد الرغبة فى تضخيم الذات. تشير الإحصاءات الحديثة إلى أنه فى أمريكا منذ الثمانينيات ازداد «معدل الاصابة بالنرجسية» Rate of Narcisism زيادة كبيرة، مع ما يصاحبها عادة من إمساك عن الانفاق فى فعل الخير والبخل المتزايد. ازدادت أيضا الشكوى من الشعور بالدونية Inferiority. بمعنى آخر، يغلب على الناس الانشغال غير المبرر بما يعرف بإدارة الصورة الذاتية، بمعنى الحاجة الدائمة والملحة إلى معرفة كيف يراهم الآخرون وكيف يبدون فى المظهر وماذا يتردد عنهم فى جلسات النميمة ودوائرها. بهذه السلوكيات ينخفض معدل السعادة فى المجتمع، فالإنسان العادى فى مجتمع تسود فيه اللا مساواة وتتسع فيه الفجوة بين الأغنياء والفقراء يصبح أقل لطفا فى التعامل مع غيره، ولا يكف عن الحديث عن نفسه وبذل الجهد لتضخيمها، وفى النهاية تتضاعف فرص إصابته «بحالة من القلق المستعصي» Status Anxiety.
•••
أفهم الآن دوافع بول كروجمان، الكاتب الاقتصادى الحاصل على جائزة نوبل، فى الحملة التى يقودها فى الصحف والجامعات الأمريكية محذرا من تفاقم أزمة اللا مساواة فى الدخول فى المجتمع الأمريكى، يعتقد كروجمان أن الطبقة الوسطى هى التى تدفع ثمن هذه اللا مساواة التى توحشت فى أغلب بلاد العالم.
مثل هذه الفجوة، عانت منها الأرجنتين على امتداد عشرات السنين وكان نتيجتها انقلابات عسكرية متلاحقة وأزمات اقتصادية واجتماعية عديدة، وتشكو منها الصين بعد سنوات من الرخاء واختارت من أجل الحد من عواقبها على السلم الاجتماعى تسليم الحكم لجيل جديد من القادة، وعانت مصر منها منذ ثمانينيات القرن الماضى، وها نحن ندفع ثمنها غاليا من مخزون القيم والتحضر واللحمة الوطنية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.