فى التحولات الجارية مزالق سياسية قد تضيع عندها الخطوط الفاصلة بين ما يصح وما لا يصح.. بين ما هو دستورى وما يخالف أية قواعد دستورية.. بين رهانات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وضغوط جماعات المصالح. «أحاديث التفويض» أخطر المزالق على صورة الرجل الذى يوشك أن يحسم رئاسة الدولة. للديمقراطية قواعدها الدستورية والكلام عن التفويض لا محل له من إعراب فى أى خطاب يتصل بعصره وقيمه الرئيسية. لا رئاسة بتفويض والكلمة الأخيرة فى صناديق الاقتراع. هو رجل له شعبية تخول له الحسم الرئاسى بالوسائل الديمقراطية تحت رقابة دولية وبلا تزوير فى صوت واحد. فى أغلب استطلاعات الرأى العام يحوز نسبة تأييد تفوق ال(70٪) بما يعنى قدرته على حسم الانتخابات الرئاسية من جولتها الأولى. يسيء ل(30) يونيو ورهاناتها على التحول إلى مجتمع ديمقراطى آمن وحر ويسيء للقوات المسلحة بتاريخها وأدوارها وتقاليدها أن ينشر عبر وسيلة إعلام رسمية أنها فوضت «المشير عبدالفتاح السيسى» للترشح لرئاسة الجمهورية. فالكلام بنصوصه ومعانيه ورسائله يقحم الجيش فى الانتخابات الرئاسية وينفى عنها صدقيتها وجديتها ويدخل البلد كله أمام نفسه وأمام العالم فى تساؤلات قلقة فالجيش ليس حزبا سياسيا يرشح رئيسا أو يفوض أحدا بالترشح أيا كان قدره وكانت شعبيته. لنحو أربع أو خمس ساعات تناقلت وسائل الإعلام الدولية قصة التفويض قبل أن يصحح ويصوب المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى بيان متلفز نتائجها شبه الكارثية. بعبارة منضبطة فى صياغاتها وقواعدها قال نصا: «لوزير الدفاع حق التصرف وفق ضميره الوطنى وتحمل مسئولية الواجب الذى نودى إليه خاصة أن الحكم فيه هو صوت جماهير الشعب فى صناديق الاقتراع». للتعبئة العامة أخطارها على المستقبل وحرياته العامة وتحيل الانتخابات الرئاسية إلى استفتاء على رجل واحد. ما تحتاجه مصر خطاب إنقاذ جديد يستند على رؤى وتصورات تلهم وترشد لا على نداءات مبايعة وتفويض على بياض. ذلك لا يساعده على نجاح فى مهمته العسيرة ولا يساعد القيم الدستورية أن تترسخ شرعيتها على الأرض وأن يصنع المستقبل وفقها. دوره فى إنقاذ الدولة من انهيار شبه محتم واحتراب أهلى لاحت نذره فى الأفق السياسى أضفى عليه صورة البطل الشعبى وأول ما يحتاجه أن يحافظ على صورته ويظل قريبا من شعبه. ومنحه رتبة «المشير» إشارة تكريم للقائد العام للقوات المسلحة وهو يوشك أن يغادر موقعه على الدور الذى لعبه فى رفع مستوى كفاءتها القتالية وروحها المعنوية بعد تجربة مريرة فى الحكم أعقبت يناير وثورته غير أنه فى سياقه يجيب عن سؤال رئيسى وحيوى لا ينظر فيه أحد رغم أن كمائنه على مرمى البصر: من أين وكيف يدير حملته الانتخابية دون أن تتعرض سلامته للخطر وهو رجل حياته مستهدفة؟ المؤكد الآن أن ضمان سلامته فى عهدة القوات المسلحة من اللحظة التى يغادر فيها موقعه على رأسها إلى دخوله «الاتحادية». وهذا أمر طبيعى فهو القائد العام الذى ينتدب نفسه لواجب وطنى وصون حياته التزام. فى اليوم التالى وعلى أكتافه رتبة المشير فإن سؤالا جوهريا وملحا يطرح نفسه عليه: متى يستقيل من منصبه العسكرى ويبدأ حملته الرئاسية؟ هناك توجهان على شيء من التضارب. توجه يطالبه بالاستقالة فورا للتفرغ لحملته وبرامجها وتوجه آخر يطلب شيئا من التروى لإحكام الترتيبات التى تليه فى المؤسسة العسكرية صونا لسلامتها بعده، وهذه قضية تشغله بحسب معلومات متواترة أكثر من أى قضية أخرى. أمامه قبل أن يغادر موقعه ترتيبات ضرورية فى بنية قيادة القوات المسلحة.. فهناك منصبان وزاريان سوف يتولاهما اثنان من قادة المجلس الأعلى فى التعديل الوزارى المرتقب أحدهما وزير دفاع جديد يتحمل المسئولية بعده والآخر وزير دولة للإنتاج الحربى يخلف الفريق الراحل «رضا حافظ». النص الدستورى الانتقالى فى المادة (230) يحتم ألا تبدأ إجراءات الانتخابات الرئاسية قبل ثلاثين يوما على الأقل من تاريخ العمل بالدستور والمعنى أن الإجراءات مؤجلة بقوة النص الدستورى إلى يوم (18) فبراير المقبل على الأقل. إن لم تحدث مفاجأة تحت ضغط التعبئة العامة التى زادت عن حدها وأفضت إلى مزالق «التفويض» فإن التوجه الثانى هو ما قد يحدث فعلا. عندما يخلع المشير «السيسى» زيه العسكرى متقدما للترشح الرئاسى فإنه يبدأ حياة سياسية لم يعتدها وتنتظره تحديات يصعب تجاوزها بلا معارك يخوضها. تتمتع شخصيته بسمتين رئيسيتين: الاتزان النفسى والقدرة على التواصل الإنسانى. الأولى مكنته بقدر ما يستطيع إنسانيا من ضبط المشاعر على الحقائق والشعبية الكبيرة التى حازها على الاختبارات العسيرة التى يجد نفسه أمامها.. والثانية ساعدته على كسب ود من يقترب منه وثقة من يعرفه على ما يؤكد زملاء سلاح قبل أن تساعده على اجتذاب ثقة الرأى العام وبصورة استثنائية فى أكثر قطاعاته عوزا. لا يتردد فى نقل مشاعره إلى من يحترمه ويثق فيه لكنه فى الوقت نفسه لديه حذره الطبيعى فيما يقول أو ينسب إليه وعناية بالمعلومات قبل أن يتخذ قراراته متأثرا بتجربته فى الاستخبارات العسكرية. بحسب مقربيه: «مشاعره لا تقوده وإن بدت حاضرة فى تعبيراته».. «رؤيته استراتيجية وإن توارت فى مداخلاته المعلنة». شاغله السياسى وهو يغادر موقعه فى وزارة الدفاع: بمن يتقدم إلى الرأى العام.. بأى رؤية وبرنامج؟ بحكم شخصيته سيأخذ وقته قبل أن يستقر على الصورة الأخيرة التى يتقدم بها للسباق الرئاسى. لا إجابات كافية عن الأسئلة المعلقة وفى الأغلب فإنها لم تتجاوز بعد دائرة المداولات الأولية ومحاولة تلمس بداياتها. يستمع ويستأنس برأى يطمئن إليه ويطلع على تقارير ويتابع تقديرات موقف من جوانبه الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية لكنه يصعب حتى الآن الكلام عن برنامج يوشك أن يعلنه. يتقدم إلى حسم رئاسة دولة مستنزفة اقتصاديا وأمنيا التخبط الإدارى ضارب فيها والفساد المنهجى استشرى فى بنيتها والتبعية الطويلة تضع حدودا على حرية حركتها فى محيطها. مهمته شبه انتحارية وتستدعى برنامج «إنقاذ وطنى» وانفتاح على الكفاءات والمواهب المصرية فى مختلف تخصصاتها. بقدر ما يتسع برنامجه للمشروع التاريخى للمصريين العاديين «الصحة والستر» فإنه يقترب من أن ينجح فى مهمته ويدخل التاريخ من أبواب قادته الكبار. هو «رجل له حلمه وطموحه ولا يشعر أنه مدين لأحد فى الحياة السياسية» على ما يقول أحد مقربيه. هذه نقطة إيجابية نسبيا فى اقترابه من «الاتحادية» تساعده على التخفف من ضغوط جماعات المصالح الكبرى التى تطلب غطاء الدولة ودعمها فى عهده كما كان جاريا فى عهود سابقة. «المصالح الكبرى» تناقض بطبيعتها رهانات العدالة الاجتماعية للذين يهتفون باسمه فى الحوارى الفقيرة والقرى النائية. يشعر بعمق أنه مدين لطرفين لا ثالث لهما.. للجيش الذى انحاز إلى شعبه فى (3) يوليو وتحمل معه المسئولية بلا تردد فى إطاحة الرئيس السابق «محمد مرسى».. وللشعب الذى اطمأن إليه ومنحه شعبية لم يحصل عليه قائد عربى آخر منذ رحيل «جمال عبدالناصر» قبل أن يؤدى واجبه فى خدمة أهدافه. هنا اختباره الأكبر وحسابه فى التاريخ.