يبدو أن الوهم الذى يروج له الكثيرون فى وسائل الإعلام بأن حل مشكلات مصر الداخلية والخارجية ستكون على يد زعيم يأتى شاهرا سيفه فيقضى على «الإرهاب»، ويحقق أمانى البلاد والعباد، ويرفع أم الدنيا إلى صدارة العالم فى سنوات قليلة قد بدأ يظهر صداه فى التعامل مع أزمة مياه النيل. فقد انطلقت فى الأسبوعين الماضيين حملة إعلامية دعائية بمانشيتات صحفية ومناقشات على القنوات الفضائية تصدر للرأى العام أن مصر قررت أن «تناور إثيوبيا» وتواجه خططها لحرمان مصر من جزء من حصتها فى مياه النيل بإطلاق مشروع لربط نهر الكونغو بنهر النيل لإمداد الأخير بكميات إضافية من المياه. ووفقا لما تناقلته هذه المصادر فإن المشروع يتبناه أحد رجال الأعمال المصريين، وأن بروتوكولا قد تم توقيعه مع كلية الهندسة بجامعة القاهرة لتنفيذ الدراسات الخاصة بالمشروع، وأن بنكا حكوميا يقوم بعمل دراسة جدوى حول المشروع لتسليمها ل«الجهات السيادية». أما الفترة المتوقعة لتنفيذ المشروع فإنها لا تتعدى العامين. ووفقا لتصريحات رجل الأعمال المتبنى للمشروع فى أحد لقاءاته على قناة المحور، فإن المؤسسة الرسمية الوحيدة الداعمة للمشروع هى وزارة الدفاع وقيادتها بينما تحفظت وزارتا الرى والخارجية لأسباب فنية وقانونية. وقد أعلن وزير الرى، الدكتور محمد عبدالمطلب، أن الحكومة ليست معنية بدراسة المشروع، وأن ما تم تقديمه هو مجرد أفكار، وأن الوزارة سوف تقيم الدراسات الفنية للمشروع عند اكتمالها. ورغم هذه التحفظات التى أبدتها مؤسسات الدولة المعنية، فإن بعض وسائل الإعلام حاولت، تصريحا أو تلميحا، تصوير هذه الأفكار بأنها نصر عظيم للجهات السيادية والقيادة الراعية لها، وطالب المقترحون لهذه الأفكار بمحاكمة كل من عرقل أو يعرقل تنفيذها، بل وتم رفع دعوى قضائية لإلزام الحكومة بتنفيذها. ••• لا يعنينى تقييم الجوانب الفنية والقانونية للمشروع المقترح، فهذا الأمر متروك للمتخصصين فى هذه الجوانب، والأهم من ذلك أنه يحتاج إلى استكمال الدراسات التى أوضحت المجموعة المروجة للفكرة إنها لم تكتمل بعد! ما أثار اهتمامى هو مجموعة من الأسئلة والقضايا المرتبطة بالجوانب السياسية والتنموية للفكرة والآثار السياسية لطرحها فى هذا التوقيت. السؤال الأول الذى يتبادر إلى الذهن هو: ما الذى ستستفيده دولة الكونغو الديمقراطية من هذا المشروع. والرد الجاهز لدى طارحى المشروع هو أنه سوف يولد طاقة كهربائية تكفى لإنارة القارة الأفريقية بأكملها، كما يمكن إقامة مدن سكنية حول القناة التى سوف يتم إنشاؤها لربط النهرين. ولكن الحكومة الكونغولية قامت بالفعل بتوقيع اتفاقيات مع عدد من الدول والجهات المانحة لإنشاء مشروع ضخم على نهر الكونغو، هو مشروع المرحلة الثالثة لسد إنجا، والذى من المتوقع أن يبدأ تنفيذه فى أكتوبر 2015 ليمد دول القارة بالطاقة الكهربائية. وكان آخر هذه الاتفاقيات تلك التى تم توقيعها مع جنوب أفريقيا الشهر الماضى خلال زيارة رئيسها جاكوب زوما إلى العاصمة الكونغولية كينشاسا على رأس وفد ضخم من الوزراء ورجال الأعمال، والتى تضمنت المشاركة فى تنفيذ المشروع والحصول على جزء من إنتاجه. وبتوقيع هذه الاتفاقية تكون جنوب أفريقيا قد بدأت فى جنى ثمار دعمها للعملية السياسية ولإنهاء الصراع فى الكونغو ثم مساندتها للحكومة الكونغولية فى تحقيق الاستقرار والقضاء على التمرد فى شرق البلاد. فهل تم التفكير فى كيفية تأثير هذا المشروع العملاق على المشروع المصرى؟ وهل يمكن أن ينفذ المشروع المصرى بتمويل من رجال الأعمال ودعم من وزارة الدفاع دون مساندة فنية وسياسية من مؤسسات الدولة الأخرى؟ ••• وعلى جانب آخر فإن القناة المقترحة ستصل نهر الكونغو بنهر النيل عند أحد منابعه فى جنوب السودان لتستفيد مصر ودولتا السودان بالمياه الإضافية. ولكن كم نحتاج من الوقت لإعادة الاستقرار إلى جنوب السودان؟ وإلى أى مدى تستثمر مصر فى إعادة الاستقرار لتجنى ثماره؟ يكفى فى هذا المقام الإشارة إلى أنه فى الوقت الذى توجه فيه رئيسا وزراء كينيا وإثيوبيا إلى جوبا للتوسط لإنهاء القتال الدائر، اكتفت مصر بإرسال نائب وزير الخارجية بشحنة مساعدات إنسانية! ••• وأخيرا، هل عرض فكرة المشروع باعتباره أمرا واقعا فى هذا التوقيت، وفى الوقت الذى لم تكتمل فيه دراسات الجدوى الخاصة به، ويتحدث المروجون له عن سيناريوهات وبدائل مختلفة لتنفيذه، مفيد للموقف المصرى من أزمة مياه النيل؟ إذا كان الهدف من طرح الفكرة هو إضافة ورقة جديدة فى يد الجانب المصرى فى مفاوضات سد النهضة، فإن الأثر على الموقف الإثيوبى سيكون فى الغالب عكسيا خاصة إذا استمرت وسائل الإعلام فى طرح المشروع باعتباره مناورة لإثيوبيا ونصرا عليها. بالإضافة إلى ذلك فإن تأييد فكرة نقل مياه أحد الأنهار إلى حوض نهر آخر قد يعطى ذريعة لدول منابع النيل للتفكير فى نقل مياه النيل إلى خارج الحوض لتستفيد منه دول مجاورة مما يؤثر على حصة مصر فى المياه، وهو ما نبه لخطورته العديد من الخبراء ووزراء الرى السابقين وعلى رأسهم الدكتور محمود أبوزيد. ••• لا شك أن مصر تحتاج إلى دراسة بدائل لتوفير المياه، كما أنها تحتاج إلى معالجة عقود من تهميش دول حوض النيل، ودول القارة الأفريقية بصفة عامة، فى سياستها الخارجية. ولكن ذلك لن يتحقق بدعاية إعلامية لمشروعات يدعمها زعيم منقذ، وإنما بجهد متكامل لمؤسسات الدولة، بمعاونة المؤسسات البحثية والقطاع الخاص، وبتأييد قطاعات شعبية يتم توعيتها بتحركات هذه المؤسسات فى الخارج دون تهويل أو مبالغات. سيتحقق ذلك، كما أشار الرئيس الأوغندى يورى موسيفينى فى حديث سابق من إحدى القنوات الفضائية المصرية، عندما تستثمر القيادة والمسئولون المصريون وقتا وجهدا لتحسين العلاقات مع أفريقيا كما يستثمرون فى علاقاتهم بالعالم العربى والغرب. من السهل أن نتقن فن صناعة وهم الزعامة، فهل نتعلم كيف نجيد فن صناعة سياسة خارجية فاعلة ومؤثرة؟