فى الوقت الذى تنشغل فيه مصر والمصريون بالتحديات السياسية فى الداخل، تفرض التطورات فى جوار مصر العربى والأفريقى تحديات أخرى لا تقل خطورة على أمننا القومى. ففى حين تحاول الحكومة المؤقتة فى مصر التعامل مع تداعيات ضعف الدولة الجديدة فى ليبيا وعدم قدرتها على ضبط حدودها، وتفادى الصدام مع الحكومة الإثيوبية الماضية فى تنفيذ سد النهضة، تنفجر بؤرة جديدة للتوتر فى جنوب السودان. فمنذ أيام قليلة بدأ قتال عنيف خلَّف مئات القتلى فى العاصمة جوبا. وقد أعلن الرئيس سلفاكير ميارديت أن القتال جاء على خلفية محاولة انقلابية يقف وراءها نائبه السابق رياك مشار، وهو الأمر الذى نفاه مشار متهما سلفاكير بمحاولة صرف الانتباه عن فشل حكومته فى تحقيق المطالب الشعبية السياسية والاقتصادية. ••• لم تكن هذه الأزمة مفاجئة للمتابع للسياسة السودانية بوجه عام، والسياسة فى الجنوب السودانى بوجه خاص. فقد ولدت جنوب السودان منذ عامين دولة هشة تفتقد للقاعدة الاقتصادية والمؤسسات السياسية والتماسك الاجتماعى الذى يمكنها من تحقيق استقرار سياسى وتنمية اقتصادية لمواطنيها. خرج الجنوب منهكا بعد أكثر من خمسين عاما من الحرب مع الشمال والتهميش من قبل الحكومات السودانية المتعاقبة، ولم تستطع القوة السياسية الأكبر فى الجنوب، وهى الحركة الشعبية لتحرير السودان، أن تحقق التوازن القبلى وأن تتحول من حركة عسكرية تقود حرب تحرير إلى حزب سياسى تحكمه قواعد ديمقراطية. وخلال شهور قليلة من قيامها بدا واضحا أن مشكلات الشمال، من فساد وسوء إدارة وصراعات سياسية وانقسامات قبلية، قد وجدت طريقها إلى الجنوب. ففى حين اتبعت الحكومة فى جوبا إجراءات تقشفية للتغلب على هشاشة اقتصادها القائم أساسا على تصدير النفط، اختفت مليارات الدولارات من ميزانية الدولة مما دفع الرئيس إلى مخاطبة عدد من كبار موظفى الدولة المشتبه فى تورطهم فى القضية لاستعادة هذه الأموال مقابل العفو عنهم! ••• وفى يوليو الماضى أقدم سلفاكير على إقالة حكومته، والإطاحة بنائبه رياك مشار، فى تغييرات امتدت لتشمل نواب الوزراء، وجاء ذلك بعد شهر واحد من إقالة وزيرى المالية وشئون مجلس الوزراء بعد اتهامهما فى قضية فساد مالى. وفى حين أعلن الرئيس أن الغرض من هذه التغييرات هو تحسين أداء الحكومة ومكافحة الفساد، ادعت القيادات التى تمت الإطاحة بها، ومنها باقان أموم، الأمين العام للحركة الشعبية وكبير مفاوضى جنوب السودان، أن الرئيس يسعى إلى تصفية معارضيه، وكبت أية أصوات داعية للإصلاح داخل الحركة الشعبية، للتمهيد لإعادة انتخابه عام 2015. وقد شهد الصراع بين جناحى سلفاكير ومشار داخل الحركة الشعبية جولة أخرى من المواجهة أواخر الشهر الماضى حينما عقد مشار، مدعوما بعدد من قيادات الحركة، على رأسهم أرملة زعيم الحركة الراحل جون جارانج، مؤتمرا صحفيا انتقد فيه نهج الرئيس فى إدارة الدولة والحزب. وقد اتهم مشار وجناحه سلفاكير بالأحادية فى اتخاذ القرارات، وبتعيين أنصاره القبليين وحلفائه من رجال الأعمال فى المناصب الحكومية، وانتقد قراره بإحالة العديد من القيادات العسكرية إلى التقاعد. ومع الاقتتال الذى شهدته العاصمة جوبا خلال الأيام القليلة الماضية تكون المواجهة داخل الحركة الشعبية قد تحولت من التنافس السياسى إلى الصراع المسلح الذى يهدد الدولة الناشئة فى الجنوب. ••• ولكن ماذا يعنى مصر فى هذه التطورات؟ إن عدم الاستقرار الذى تشهده جنوب السودان لن يصب فى مصلحة مصر لسببين على الأقل. السبب الأول أن أحد مقترحات الخروج من الأزمة المائية المتوقع أن تشهدها مصر، والتى قد يفاقمها اكتمال سد النهضة، هو إقامة مشروعات مع حكومة جنوب السودان للحد من الفاقد المائى لنهر النيل فى منطقة المستنقعات والسدود، والذى يقدر بمليارات الأمتار المكعبة. وهناك تجربة غير مكتملة للتعاون فى هذا المجال. فقد توقف العمل فى مشروع قناة جونجلى منذ نحو ثلاثين عاما نتيجة تجدد الحرب فى الجنوب، وبعد قيام الدولة الجديدة تجدد الأمل فى استئناف مثل هذه المشروعات. يعنى ذلك أن استمرار الاقتتال فى جنوب السودان يضيع الفرصة على مصر فى إقامة مشروعات تعاون مائى واقتصادى مع دولة نيلية مهمة. ••• السبب الثانى أن تزايد الانقسامات داخل الحركة الشعبية قد يدفع الأجنحة المتنافسة إلى السعى إلى تدعيم تحالفاتها الإقليمية. وقد أظهرت توجهات السياسة الخارجية لحكومة سلفاكير ميلها للتحالف مع الدول الأفريقية المجاورة وتدعيم علاقاتها مع إسرائيل. وقد كان ذلك متوقعا نتيجة لتاريخ الموقف العربى الغائب عن السياسة السودانية فى معظم الأحيان، والداعم لنظام الحكم فى الخرطوم فى أحيان أخرى. وقد تقدمت جوبا بطلب الانضمام لجماعة الشرق الأفريقى، التى تضم كينيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا وبوروندى (وجميعها دول تشارك مصر فى حوض نهر النيل). كما عقدت إسرائيل عددا من الاتفاقيات لتقديم المعونة الفنية لجنوب السودان فى مجالات الزراعة والمياه وتكرير النفط، وهى مجالات تحتاج جوبا لتطويرها لدعم اقتصادها الناشئ. إذن فعلى مصر أن تنتبه إلى إن غيابها عما يجرى فى جنوب السودان قد يعضد من تحالفات إقليمية لا تصب فى صالحها. ••• إن انشغال مصر عما يحدث فى السودان وعدم توازن علاقاتها مع قوى الشمال والجنوب قد أضعف موقفها كوسيط فى الحرب السودانية على مدى خمسة عقود، فهل تعى مصر الدرس هذه المرة أم تدفع ثمن أكبر لعقود مقبلة؟