وجبة «حرشة» من ساندويشات السجق من عند «زيزو» المرابض فى حى السيدة زينب، والمعروف بصيته خارج ضواحيها، ويتبعها لزوم الترطيب كوب من عصير القصب الطازج. مفردات هذه الوجبة تعد مألوفة للكثيرين، وربما لا تحمل بوصفها ممارسة غذائية أية دلالات للمقبلين عليها سوى إتاحتها وملاءمة سعرها، أما بالنسبة للكاتبة والباحثة أنوك دى كونينج الحاصلة على درجة الدكتوراة من جامعة أمستردام فإن هذه الوجبة كانت تصلح كمنطلق لبحثها حول هوية القاهرة والطبقة المتوسطة فى مصر الآن. بحث كونينج نشرته الجامعة الأمريكية فى كتاب صدر حديثا باسم «أحلام عالمية» الطبقة والنوع والمكان فى القاهرة الكزموبوليتانية يرصد الفجوة التى تفصل بين الطراز العالمى المدهش الذى يغزو القاهرة مع بداية القرن الواحد والعشرين ويبدو من خلال فنادقها ذات الخمس نجوم، ومبانيها التجارية الفارهة والأخرى المخصصة للتسوق، والمعروفة ب«المول التجارى»، ومقاهيها الأمريكية والإيطالية التى تقدم قهوة اللاتيه وسلطة السيزر، ومجمعاتها السكانية فى الطرق الصحرواية، التى تعد جميعها مظاهر لليبرالية الاقتصادية، وبين المشهد الاجتماعى الذى يشهد تراجعا عن مكتسبات الطبقة الوسطى فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر، وتتساءل عما حدث لهذه الطبقة التى كانت يوما ما حاملة آمال وأحلام الوطن؟ ميول عالمية يعتبر الكتاب أن ثورة 1952 شهدت بزوع الطبقة الوسطى العاملة كحاملة لملامح الدولة المصرية الحديثة القائمة على الاستقلال والعدل والتوسع فى دور الدولة الراعى للتعليم والتوظيف، وفى أعقاب عام 1990 توجهت الدولة فى المقابل إلى التشديد على أهمية اللحاق بالمعايير العالمية، بالتوازى مع مراجعة مبادئ المشروع الوطنى وكأن العقد الاجتماعى الذى دوّن فى عهد عبدالناصر بين الدولة والمواطنين تم إعادة صياغته من جديد بشكل مغاير، والشاهد على ذلك الانحدار الذى آلت إليه المؤسسات الحكومية التى أنشئت فى عهد عبدالناصر، والصعود الموازى للبدائل من مؤسسات خاصة، أما القطاعات العامة فى سوق العمل والتعليم فإنها اتجهت لمزيد من التدهور الذى يبدو حسب الباحثة لا رجعة فيه، وتضيف أن مظاهر القطاع العام ببؤسها يمكن مشاهدتها لمن لا يضطر للتوجه للدوائر الحكومية فى الحافلات والمواصلات العامة والمدارس الحكومية، التى أسس لنظامها التعليمى الرئيس عبدالناصر، ولا تزال حافلة بالطلاب بشكل يجعل فصولها بالغة التكدس، إلا أن سوق العمل لم تعد يرحب بخريجى تلك المدارس، وكذلك فإنه بالنظر إلى التعليم فى الجامعات الحكومية فإن كليات القمة وكذلك أقسام اللغات تمنح مزايا أكبر لخريجى مدارس اللغات، وانقسمت الطبقة المتوسطة بذلك إلى فئتين الأولى هى التى تستطيع نسبيا أن تدفع ثمن الخدمات الخاصة، والفئة الأخرى هى التى لا تستطيع التخلص من الدوائر الحكومية فى دروب المعيشة كافة. تقول أنوك دى كونينج: «هناك صلة ما بين الحقبة الليبرالية التى تلت الحرب العالمية الثانية، والحقبة الجديدة التى يمكن تأريخها منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضى وحتى الآن، وهذه المقارنة يمكن تبريرها بأن الحقبتين تمتازان بالاستقلال عن الاحتلال الأجنبى الخارجى، والميل مع ذلك إلى أوجه الحياة ذات الطراز العالمى رغم الفروق الاجتماعية الواضحة، التى توصل لدى البعض إلى الشعور بالحرمان، وهو ما يجعل توجهات كل طبقة وألوان حياتها تنقسم بين ميل إلى العالمية مقابل الاستغراق فى المحلية. تشير الباحثة إلى أن القلق من هذا الميل نحو العالمية بما فى ذلك المعرفة والمهارات والذوق العام من قبل الطبقات الأعلى يؤدى إلى ترسيخ مفاهيم طبقية عديدة، ويبقى فى المقابل الحنين إلى عهد عبدالناصر والترحم على أيامه لدى الطبقات الأدنى اقتصاديا. أمة مقسمّة يقول الكتاب إن ما وصفه ب«مشروع مصر الليبرالى الجديد» يقوم على بندين الأول هو اقتناص أعمال برءوس أموال عالمية، وتنشيط القطاع الخاص من خلال ضخ استثمارات فى الأصول والمشروعات، علاوة على إدخال تعديلات سياسية تهدف إلى تحجيم وتقليص ميزانيات الدولة والتخلى عن دورها الراعى، وهذه الثنائية تشكل مكونات لمشروع الليبرالية الجديد الذى يمكن قراءته باعتباره يحمل مكونات أمة مقسّمة. فى الكتاب فصل كامل عن المقاهى فى مصر وعلاقتها بالطبقة الاجتماعية والميول الكزموبوليتانية، وذلك من خلال زيارة الباحثة عددا من أشهر المقاهى الحديثة فى القاهرة، وقالت إن هذا الطراز من المقاهى بدأ فى الظهور فى التسعينيات من القرن العشرين فى الأحياء الراقية كمصر الجديدة والزمالك والمعادى والمهندسين، ثم مالت إلى الانتشار بشكل لافت مع نهاية عام 2004 فى مختلف الأحياء، وهى المقاهى التى تقدم القهوة الأمريكية والقهوة اللاتيه وسلطة الدجاج المشوى «السيزر»، وتقول فى ذلك إن مذاق الكابتشينو أصبح يحمل رمزا عالميا، وأبدت دهشتها من أن أغلب تلك المقاهى تحمل أسماء أجنبية، كما أشار الكتاب إلى استمرار «القهوة البلدى» فى ممارسة دورها فى الأحياء العامة والشعبية متميزة بأبوابها المفتوحة للمارة دون تمييز، وفى هذا الصدد اختار القائمون على النشر تصميما للفنان حلمى التونى لفتاة تجلس وتشرب القهوة وتدخّن وتبدو عليها ملامح غربية. إعلانات بدون حجاب محور آخر تذهب إليه الباحثة وهو الخاص بقيام الإعلام بتصوير ما تصفه ب«القاهرة الأخرى» غير الموجودة فى الشارع، التى تعتمد على «تلميع» صورة الشارع، وإظهار صورة مغايرة للشباب المصرى، ومن ذلك إعلانات جمعية «جيل المستقبل» التى يرأسها جمال مبارك، وتقول إن هذه الإعلانات قدمت رجالا وسيدات أقرب إلى مظهر رجال وسيدات الأعمال، وقالت إن هذا الإعلان لم يصوّر فتيات محجبات وكأن الحجاب لا يليق بأن يكون صورة لحاضر أو مستقبل مصر حسب الباحثة ، وأشارت أيضا إلى عدد من الإعلانات التجارية التى تصوّر طقوسا منزلية أقرب إلى الرفاهية من حيث طرق ومكونات إعداد الطعام، وكذلك الإعلانات عن القرى السياحية والفيلات الفارهة، وفى هذا كله ميل إلى تصوير ملامح عالمية للقاهرة.