نعود إلى البدايات: للتنظيم الديمقراطى للدولة وللمجتمع سمات رئيسية من بينها تداول السلطة والانتخابات الدورية وضمانات حقوق وحريات المواطنات والمواطنين وفى مقدمتها التعبير الحر السلمى والعلنى عن الرأى، ولنظم الاستبداد والسلطويات الحاكمة أيضا سمات رئيسية من بينها مقاومة تداول السلطة وتفريغ الانتخابات (إن وجدت) من مضمونها الديمقراطى والانتقاص من الحقوق والحريات خاصة الحق فى التعبير الحر السلمى والعلنى عن الرأى عبر التقييد «القانونى» والممارسات القمعية. بالقطع، لا تعدم الديمقراطيات المستقرة والبازغة ولا الدول المتحولة إلى الديمقراطية القوانين واللوائح الإدارية التى تنظم حق التعبير الحر عن الرأى وتحول دون إساءة استغلاله إن بالخروج عن مقتضيات السلمية أو بالترويج لأفكار وقناعات تناهض مبادئ وقيم الديمقراطية والمواطنة. هكذا، مثلا، تنظم معظم الديمقراطيات الغربية وغير الغربية حق التظاهر بقوانين تلزم بإخطار الجهات الحكومية بموعد ومكان وموضوع المظاهرة أو التجمع أو الاعتصام، ويمنح بعضها استثناء (كما هو الحال فى ألمانيا مثلا) الجهات القضائية المختصة صلاحية إلغاء مظاهرات أو تجمعات أو اعتصامات إن ارتبطت بما يناهض الديمقراطية (كمحاولات المجموعات النازية التظاهر فى ذكرى ميلاد الديكتاتور أدولف هتلر ولنشر الأفكار النازية المضادة لمبادئ الحرية والمساواة والمواطنة). إلا أن الديمقراطيات لا تتورط أبدا فى توظيف قوانين التظاهر لتجريمه عبر القيود والتهديد بالقمع ومن ثم منعه عملا وتحريم حرية التعبير عن الرأى، ولا تتورط الدول المتحولة إلى الديمقراطية أبدا فى إعطاء الجهات الحكومية (الأمنية والتنفيذية والإدارية) الحق فى تحديد عدد المشاركين فى المظاهرة أو التجمع وفى تحديد أماكنها وفى إلغائها دون العودة إلى القضاء، ولا تتورط نخب الحكم فى الديمقراطيات والدول المتحولة إلى الديمقراطية فى تجريم الاعتصام بقوانين أو تقنين التهديد بالقمع الرسمى بالنص على إمكانية تعامل الأجهزة الأمنية مع المتظاهرين كمجرمين أو إرهابيين. وبالنظر إلى حالة مصر اليوم، فإن قانون التظاهر الذى أقرته سلطة الأمر الواقع ممثلة فى الحكومة وطلبت تصديق الرئيس المؤقت عليه يتورط فى كل محرمات قوانين التظاهر فى الديمقراطيات أو فى الدول المتحولة إلى الديمقراطية. الاعتصام السلمى مجرم، للجهات الأمنية والتنفيذية ودون الرجوع للقضاء حق إلغاء المظاهرات أو التجمعات قبل أن تبدأ وحق تفريقها بعد أن تبدأ، لذات الجهات أيضا صلاحية تحديد أعداد المشاركين وأماكن التظاهر والتجمع ومخالفة تعليماتها يعرض لعقوبات مشددة، ينظر للمواطنات وللمواطنين الراغبين فى المشاركة فى مظاهرات أو تجمعات على أنهم مجموعة من المجرمين أو الإرهابيين المحتملين وليس بكونهم يبحثون عن ممارسة حقهم الطبيعى والأصيل فى التعبير الحر عن الرأى. لذلك فإن مصر اليوم، وبعيدا عن ضرورة التشديد على أن الصيغة الراهنة لقانون التظاهر لا تختلف كثيرا عن الصيغة غير الديمقراطية التى أقرتها حكومة الدكتور محمد مرسى وأرسلتها إلى مجلس الشورى للمناقشة وإن اختلفت فهو اختلاف إلى الأسوأ، بصدد محاولة لتجريم التظاهر وتحريم التعبير الحر عن الرأى عبر أداة التقييد القانونى، محاولة استبدادية الجوهر تسير فى ذات الاتجاه السلبى لبقية الإجراءات غير الديمقراطية التى تم اتخاذها بالفعل من التوسع فى احتجاز المعارضين وإلغاء الحد الزمنى الأقصى للحبس الاحتياطى (ثلاثة أشهر) وعودة الأمن السياسى إلى وزارة الداخلية وفرض حالة الطوارئ وتمديدها وتوالى انتهاكات حقوق الإنسان وغياب حرية تداول المعلومة. استفيقوا أيها الناس، خطوات الانتقاص من حقوقكم وحرياتكم تتسارع وعملية إعادة بناء التنظيم غير الديمقراطى للدولة وللمجتمع تتواصل على قدم وساق وفى ظل موجات تشويه وتزييف الوعى العام وتغييب الرغبة الشعبية فى الحصول على المعلومة ومعرفة حقيقة الأوضاع. استفيقوا أيها الناس، لا مصداقية ولا مضمون فى حديث عن مسار لتحول ديمقراطى وانتخاب مؤسسات تشريعية وتنفيذية فى ظل دستور جديد حين تتغول الأجهزة الأمنية والتنفيذية والإدارية على حقوقكم وحرياتكم وتنتقص منها بل وتلغيها عملا. استفيقوا أيها الناس، لن يقتصر الانتقاص من الحقوق والحريات على معارضى اليوم فقط، لا على الإخوان واليمين الدينى الذين وظفوا ذات أداة التقييد القانونى حين كانوا فى السلطة، ولا على معارضى عودة الدولة الأمنية والمدافعين عن الحقوق والحريات الذين وقفوا فى ذات المساحة فى عام حكم الإخوان، بل سيصل إلى كل مواطنة وكل مواطن يريدون ممارسة التعبير الحر عن الرأى والمشاركة فى تحديد حاضر ومستقبل دولتنا ومجتمعنا. استفيقوا أيها الناس وانتصروا لحقوقكم وحرياتكم. غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.