«بأى ذنب قُتل».. سؤال وجهه أهالى مدينة المنصورة أثناء خروجهم لتشييع جثمان الشهيد حسام الدين عبد الله عبد العظيم 29عاما ابن مدينة المنصورة، الذى تُوفى فجر يوم السبت، إثر دهسه بواسطة مدرعة الامن المركزى التى كانت تطارد المتظاهرين لتفرقهم من أمام مبنى محافظة الدقهلية، وهى تلك المنشأة التى لجأ إليها أبناء المحافظة للتظاهر عندها لأنها تمثل السلطة الحاكمة. خرج الآلاف مستعيدين ذكريات خروجهم على الرئيس المخلوع حسنى مبارك حتى أبعدوه عن السلطة، خرجوا لمواجهة أجهزة أمن فاقت قدراتها عن ماضيها من حيث الأداء والوحشية فى القمع.
فالتخبط فى إعطاء الأوامر للمجندين بإطلاق الرصاص الحى والخرطوش، بدا واضحا أثناء مرور جنازة الشهيد أمام سجن المنصورة العمومى، فهذا مجند يطلق الأعيرة الخرطوش على الجثمان ومشيعيه فور مرورهم من أمام الأسوار الحديدية للسجن.
لم يعط الأهالى هذا المجند الفرصة لإطلاق المزيد من طلقاته صوبهم، إذ بادلوه هو وزملاؤه التراشق بالحجارة وفى ثوانٍ معدودة ظهر ضباطه ومرءوسوه ليعطى كل قائد منهم الأمر لجنوده بإطلاق الرصاص، حتى سقط مصاب آخر من مشيعى الجثمان فاقدا الوعى وتم نقله للمستشفى لتلقى العلاج.
على بعد عدة أمتار داخل أحد الشوارع الجانبية القريبة من مكان الاشتباكات، اختار الأطباء الميدانيون القادمون من القاهرة والجيزة والإسكندرية الذين أتوا بشكل تطوعى لمقر حزب التحالف الشعبى الاشتراكى، كمستشفى ميدانى لاستقبال حالات الإصابات لعمل الإسعافات والعمليات الجراحية اللازمة لها، ولكنهم لم يتفاجأوا لما حدث لهم من قوات الأمن المركزى بالرغم من الفرق الامنية التى تطارد المتظاهرين فى الشارع الرئيسى والشوارع الجانبية، وتوجهت فرقة من قوات الأمن المركزى مدعومة بمدرعة لاقتحام مقر الحزب الذى يقع فى الدور الأول العلوى بأحد الابنية.
«اهربوا من السلم الخلفى أو نطوا من البلكونة» عندما شعر أحد الاطباء بأقدام قوات الأمن تصعد السلالم أمر من معه بالهروب وخيرهم بين الخيارين وهو ما نفذه أصدقاؤه إلا عددا من الأطباء لم يسعفهم الوقت للهرب وكان من نصيبهم مواجهة القوات لتنال منهم.
كما اقتحمت القوات المقر، وقامت بتثبيت الاطباء أرضا كأسرى الحروب، فيما توجه عدد منهم لتحطيم محتويات المقر كاملا، بالإضافة إلى المستلزمات الطبية والأدوية التى تستخدم فى علاج المصابين ولم يقترب أى من الجنود إلى جهاز التليفزيون.
الحاجة الوحيدة اللى سبوها سليمة التليفزيون مع إنه مش شغال.. بعد هذا المشهد العنيف وانصراف قوات الامن ووقوفها أكثر من ساعتين تحت المقر لتمنع وصول المصابين إليه ارتجلت إحدى عضوات الحزب هذه الجمله حتى تهون على الاطباء ما تعرضوا له.
«هانروح فين وفين مكان المقر الثانى» سؤال يسأله أحد الأطباء فور نزولهم من المقر المقتحم لأحد زميلاته فالأطباء الميدانيون المتواجدون داخل المستشفى هم مجموعة كبيرة من الأطباء والطبيبات من طلاب الامتياز والمتخصصين والأساتذة المساعدين المتخصصين فى العديد من التخصصات الطبية (المخ والأعصاب والجراحة العامة والعظام والقلب والعيون) حيث جاءوا إلى مدينة المنصورة لمساندة زملائهم الاطباء ولخبرتهم فى العمل بالمستشفيات الميدانية منذ بزوغ فجر الثورة.
بعد انصراف قوات الشرطة وعودتها مرة أخرى للاشتباك مع المتظاهرين حاول الأطباء الغرباء عن المدينة توفير مقرا بديلا بدلا من المقر المقتحم فما كان من حزب المصريين الأحرار أن يقرر استضافة المستشفى الميدانى بين أروقته والذى يقع على ناصية الشارع الرئيسى مسرح الأحداث.
استقبل المستشفى الميدانى فى مقره الجديد منذ انشائه فى الساعة العاشرة مساء وحتى صباح اليوم التالى، أكثر من 20 حالة إصابة مباشرة فى العين و20 حالة إصابة بخرطوش فى أماكن متفرقة من الجسد، وأكثر من 50 حالة اختناق شديد جراء استنشاق الغاز المسيل للدموع، والذى يسبب اختناقات شديدة فى الجهاز التنفسى ربما تؤدى إلى الوفاة على حسب رأى أحد الأطباء ويعمل أستاذا مساعدا لجراحة القلب بلندن والذى أتى إلى المنصورة لتقديم واجبه المهنى.
الجو داخل المستشفى الميدانى كان ملبدا بالاحتياط فمع انكشاف مكان المستشفى الأولى، بعدها علم الجميع أن قوات الشرطة ستحاول اقتحام المقر البديل، وهو ما حدث بالفعل ولكن ذكاء الأطباء حال دون وقوع ذلك.
ففى الساعة الواحدة صباحا، أعادت قوات الشرطة انتشارها فى الشوارع الجانبية حتى توصلت لمكان علاج المصابين فإذا بأحد الشباب يصعد إلى مقر المستشفى لينبه الأطباء بأن الشرطة على بعد عدة أمتار من الشارع «اطفوا الأنوار واقفلوا الشبابيك ومحدش يتكلم» ربما عاد الأطباء للزمن 5 عقود او أكثر ففعلوا ما كان يفعلونه الأجداد عند غارات العدوان الثلاثى حتى لا يحدد العدو أماكن تواجدهم واستهدافها.
استمر المشهد نصف ساعة خيم الصمت على أرجاء المكان وسط أنين بعض المصابين الذين كتموا آلامهم حتى لا يتعرضوا للاعتقال، فكان من بينهم الكثير من المرضى يقوم بإجراء عمليات استخراج رش الخرطوش من أجسادهم.
انتهى المشهد بسلام بعد انتهاء تلك المدة ولكن يبدو من المشهد العام لأهالى المدينة أن قوات الشرطة لم تقف لحماية منشأة عامة من اقتحام مثيرى الشغب والبلطجية لها كما يدعى مسئولو الأمن ولكن القصد الأول والأخير هو فض المظاهرات بأى شكل كان.
فالمشهد استغربه بعض المتظاهرين «دول عايزين يموتونا» بينما لم يستغربه البعض الآخر «إحنا عارفين إنهم خاينين».
بعد عدة لحظات أذن احد المتظاهرين فيهم لإقامة شعائر صلاة الفجر وكانت دعواتهم رفع الظلم عنهم وسقوط حاكم ظالم سالت الدماء فى عهده أكثر من حقنها.
من جانبها اعلنت مديرية الامن، عن ضبط 11 ممن وصفتهم بمثيرى الشغب، بعد إصابة النقيب محمد عوده حامد، ومصطفى بسيونى جمعة، وعبدالرحيم عوض يوسف، ورمضان عبدالمقصود محمد، والسيد على محمد، وإسماعيل محمد إسماعيل، والسعيد محمد الحسينى، وأحمد سعد عبدالله، ومجدى نبيل محمد، وأحمد مرسى إبراهيم، وعلى عبدالعزيز محمد، مجندين بالأمن المركزى.
على جانب آخر، اتهمت قوى سياسية بمحافظة المنصورة، ومن بينهم «التيار الشعبى» الذى يتزعمه المرشح الرئاسى السابق، حمدين صباحى، وحزب التحالف الشعبى الاشتراكى، والمصرى الاشتراكى، قوات الأمن المركزى باقتحام مقارهم وتدمير محتوياتها، وذلك على خلفية الاشتباكات التى تشهدها ميادين المنصورة.
وقال عبد المجيد راشد، منسق التيار الشعبى بالدقهلية، ل«الشروق»، إن قوات الأمن المركزى بالمنصورة، اقتحمت مقر التيار الشعبى ودمرت جميع محتوياته.
وأوضح أن المقر يتكون من غرفتين الأولى حولها التيار إلى مستشفى ميدانى، والثانية يخصصها التيار كمركز إعلامى للتيار، وكان يتجمع بداخله الصحفيون المسئولون عن تغطية أحداث المنصورة من مختلف المحافظات.
وأضاف راشد أنهم سيعيدون تأسيس مقر التيار بالمنصورة من جديد بما فيه المستشفى الميدانى، فيما تمت إقامة مستشفى ميدانى بديل بمقر حزب المصريين الأحرار الذى يمكث على بعد 200 متر من مقر التيار، لاستقبال المصابين جراء الاشتباكات التى تتبع تظاهراتهم.
وفيما يخص خطواتهم التصعيدية القادمة، قال منسق التيار بالمنصورة: «خطتنا التصعيدية تتمركز فى تنفيذ عصيان مدنى غير محدد المدة على مستوى محافظة المنصورة، ونعمل حاليا على دعوة المواطنين إلى الاستجابة للمشاركة فى العصيان المدنى لمواجهة بلطجية النظام»، حسب تعبيره.
من جهته، قال حزب التحالف الشعبى الاشتراكى، إن ما حدث على مدى الأيام الماضية فى الدقهلية وبورسعيد هى جرائم تستوجب إقالة وزير الداخلية ومحاسبته.
ومن جانبه، قال عبد الغفار شكر، وكيل مؤسسى حزب التحالف الشعبى الاشتراكى، إنه كان فى الإمكان تفادى أحداث العنف التى تشهدها ميادين المنصورة بإبعاد قوات الأمن المركزى عن مواقع تجمعات المتظاهرين طالما أنهم سلميون.
وفى السياق نفسه، أدان عمرو موسى، رئيس حزب المؤتمر، ما وصفه ب«التوجه العنيف» ضد متظاهرى المنصورة، قائلا: «رحم الله كل شهداء الوطن، وأقدم التعازى لشهيد الأمس فى المنصورة، وأدين التوجه العنيف تجاه المتظاهرين».
وتابع: «استمرار مشهد السحل وخطف شباب المتظاهرين وسقوط الشهداء وتزايد أعداد المصابين يعنى أن هناك خللا ورعونة فى التعامل مع المواطنين. وأن شيئا لم يتغير»، مطالبا بوقف جميع أعمال العنف فورا لحقن دماء المصريين وبدء التحقيق العاجل فى هذه التجاوزات، داعيا جماهير الشعب إلى الاستمرار فى نضالها من أجل تحقيق الحرية، والتصدى لدولة الاستبداد.