«صباح الخير يا صالح/ قاطع الطريق مات/ لكنهم خدعونى». ما الذى يمكن أن يفهمه المرء من قصيدة كهذه؟، مالذى يستبقيه منها سوى حشد الاستفهامات، واقتراحات بتواريخ لروايات وعلاقات قد لا يصمد أيها للمنطق؟.
لكنها، وفق منطق الشعر وحده، تصمد. ضمن المجموعة الشعرية الأحدث للشاعر المصرى عصام أبوزيد «كيف تصنع كتابا يحقق أعلى مبيعات؟» (دار روافد 2012).
مائة صفحة من الشعر، وعشرات القصائد، خفيفةٌ كالعطر الطيار، ونافذةٌ فى آن. الغالبية منها قصير أو شديد القصر، منحازٌ أكثر للاواقع، للفانتازيا بصناعتها الماركيزية حيث: «ضفادع ملونة تختفى إذا نظرت إليها وكان فى قلبك مثقال ذرة من شر، و«أرنب يتكلم معى» و«حمار يصعد السلالم»، و«شجرة تأكل الحلوى وتنير ياقة الحديقة» ويمام، وعنادل، وبحيرات، ورجال كذلك، يتحولون إلى طيور. ماركيز نفسه كان هناك، مع الشاعر فى قصيدة «نزهة خارج السينما»: كنا ندور حول المكان أنا وصديقى ماركيز/ نشعر بالضوء ينفلت من صخرة بعيدة/ نشعر بوخزة فى الصدر نتبادلها كإيقاع موسيقى خافت ولذيذ يربطنا معا فنتحرك..»إلى نهاية القصيدة بالسؤال /المفارقة: «لماذا كتبت على الباب أن كلمة الوداع أجمل من كلمة المضاجعة وأنت تعلم أنك كاذبٌ ولئيم..».
المفارقة التى أراد عصام تصديرها منذ العنوان غير الشعرى الذى اختاره لديوانه، والغلاف المصحوب بفائض بهجة لا تعتادها أغلفة القصائد. لكنه اللعب انحياز عصام أبو زيد فى ديوانه الأخير، كما فى روايته الوحيدة «يوميات ناقل أسرار» التى كتبها: «لأسخر من الشكل الروائى وأحطمه تحطيما»، لكن القصائد وإن لاحت بها السخرية أحيانا، لم تحطم الشعر فى الديوان الجديد، ظل هاجعا طوال الوقت فى المسافة بين الكلمات القليلة مبنى القصيدة، وداخل هذه الكلمات المنتقاة شعريا.
عبر هذا الديوان ثمة طفولة تُشيد أفكار القصائد وفق منطقها، ووفق لغتها أحيانا. تستدعى، كامتداد لحالة اللعب، عناصر كالبحيرات والأسماك والبيض، والأصدقاء القدامى، والأب المفقود والأم التى تمشى فى منامها، والأنا فى المرآة، لتلعب معها، فقط. أو لتحتمى من القضايا الكبرى ووخز الهواجس، فى مقابل مهرب أو أمنية فى التصفية والتسامى، والهروب بالتصوف من أسئلة من قبيل: «لكن لماذا هو الشك؟!/ ولماذا يظهر النعناع فجأة؟!/تعبتُ.. والله تعبت».
وكإطار مناسب للفانتازيا يمتد المكان فى الديوان بامتداد الكون ذاته: سماؤه التى تسكنها الملائكة، أرضه، بحيراته ذات الأسماك والبشر فى القاع، السينما، الحديقة، السرير، صفحات الرواية بتقسيم المؤلف، رءوس الجبال فى نيكاراجوا، البيت الذى يشبه بيضة، السفن القديمة، أو «خارج المكان».، أما الزمن فربما لم يلحْ محددا سوى فى قصيدة «تسعينيات» لكنه بدا لمرات غائما بذكر مثل: للتو، تلك الليلة، الفجر، باكرا، أو بعد شهرين، يتأكد هذان العنصران عندما ينسحب الشاعر فجأة للورق، وينزع الخيط بين الواقع والأشخاص وأنفسهم داخل القصيدة والرواية التى ورد الشاعر ضمنها بتصرف مؤلف آخر:
«شمس الأرملة ليس عنوانا جيدا لهذه القصيدة/ لن يضىء حياتها/ وهى تعبر هذا الصيف/ ضجرة وهزيلة» أو «كنا شريكين فى السرد يرجم أحدنا الآخر/ هكذا رسم المؤلف أقدارنا».
فى آخر الديوان جاء عصام أبوزيد فى قصيدة باسمه، ربما ليكشف أنه هو ذاته المؤلف أو الضفادع وبذور البامية، والأرانب، والسيارة الكاديلاك 1957، أو الطفل الذى يلعب أعلى قمة الحسرة، منجرفا فى وهم طفولى بعيدا عن الغنائية ربما إلى الهذيان وتقىء الهواجس على حافة الجنون:
«لقد كنت أمزح معك/ أنا عصام أبوزيد/ ثم إننى لا أصدق أنهم قتلوه/ انحرف القطار وانفجر الرأس/ العقل ظل يتأرجح/ نمت شجرةٌ تطرح كمثرى/ لا أحبها/ أحب عصام أبو زيد».