أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون يوم 20 أكتوبر هو يوم نهاية حقبة أليمة من الظلم والاستبداد فى ليبيا دامت لأربعة عقود، فبعد ثورة عارمة طالت كل المدن الليبية لفترة ثمانية أشهر دامية دفع فيها الشعب الليبيى كثيرا من دمائه وأمواله وأعراضه، قتل القذافى على يد من كان يطلق عليهم «الجرذان» وهم من أخرجوه من أنابيب الصرف الصحى التى هرب إليها كالجرذ، لم يصدق الثوار أنفسهم ساعة القبض عليه وهو من كان يحيط نفسه بهاله من العظمة والجبروت انعكست فى التسميات العديدة التى كان يطلقها على نفسه بداية من أمين القومية العربية انتهاء بملك الملوك «استغفر الله» فقد استسلم بكل يسر وكان يستجدى أعطف الثوار بقولة أنتم أبنائى وأنا مثل والدكم، فأين المقاتل المجاهد المناضل أين الصخرة الصماء والصمود والتحدى كما كان يطلق على نفسه وهو الذى وصل لدرجة من الجبن والخوف منعته من استعمال مسدسه المذهب الذى كان بيده. ●●●
لقد انتهى القذافى وذهب نظامه إلى غير رجعة والحمد لله والله أكبر، فهل انتهت الثورة فى ليبيا؟ فى الحقيقة الثورة لم تنته لقد خرج الشباب ومن بعدهم كل فئات الشعب فى 17 فبراير لأسباب يطول شرحها وتعدادها وهذه ترجع فى وجودها لوجود القذافى، لكن موته وغيابه عن الساحة لن ينهى أوتوماتيكيا السلبيات المتعددة التى خرج الشباب لإزالتها هذا من جانب، ومن جانب آخر خلق تعامل القذافى مع الثورة سلبيات جديدة على الساحة يجب التعامل معها وحلها، وبمعنى آخر، أن الثورة على كل هذه السلبيات القديمة والمستحدثة قد بدأت الآن فعليا وجاء وقت الاختبار الحقيقى للنوايا الحسنة والاختبار الحقيقى لمبادئ وأهداف 17 فبراير، ولا أقصد بذلك الثوار فى الجبهات فقط وإنما كل من ساهم فى نجاح الثورة بداية من اعضاء المؤسسات الأهلية الخيرية والذين شكلوا فى مجملهم الأساس للمجتمع المدنى فى ليبيا ،مرورا بكافة أطياف الشعب الليبيى من أطباء، محاميين،مهندسين، شيوخ قبائل، مشايخ المساجد، انتهاء بأعضاء المجلس الوطنى الأنتقالى، فقد الوقت لخوض معركة جديدة وهى معركة بناء ليبيا الديمقراطية، وأننى لأرى أنها أشد شراسة من معركة التحرير.
ففى غياب البنية السياسية والدستورية والحزبية فى ليبيا طيلة 42 فإن هناك تحديات كبيرة تواجهنا فى معركة البناء وهذه التحديات تطرح ثلاثة سيناريوهات مختلفة لما سيكون عليه الحال فى ليبيا بعد رحيل القذافى فى هذه المرحلة الأنية أى قبل الانتخابات وتشكيل الحكومة الدائمة، وهذه السيناريوهات يطرحها واقع الأوضاع الحالية، فعلينا الاحتياط والاستعداد لها حتى تكون لنا رؤية واضحة لمواجهتها، وسنذكر شروط تحقق السيناريو وقيوده حسب ما يقتضيه المنهج الإستشرافى .
●●●
أول هذه السيناريوهات هو انزلاق البلاد نحو الفوضى: ومن شروط تحقق هذا المشهد اولا: انتشار السلاح وغياب رؤية واضحة للتعامل مع هذا الوضع وكيفة السيطرة عليه هذا من جانب، ومن جانب آخر غياب قيادة موحدة لكل كتائب الثوار المسلحة حتى الآن فهناك كتائب عدة لم تنظم للجيش الوطنى وفى أماكن متفرقة، أضف إلى ذلك انشاء السلاح بين المواطنين العاديين من غير الثوار فى الجبهات. ثانيا: ضعف المجلس الوطنى الإنتقالى والمجالس المحلية فى تلبية احتياجات المواطنين والسيطرة امنيا وإداريا وسياسيا حتى الآن بشكل كامل فالمفترض فى المجلس الوطنى الانتقالى الإعلان عن حكومة مؤقتة بعد الإعلان عن التحرير تدير البلاد وتنظم اجراء الانتخابات لمدة الثمانية اشهر القادمة ، ولكن إلى الآن لم يتم الاتفاق على هذه الحكومة وهى محل جدال وخلاف بين فئات عدة. ثالثا: الخوف من الطموح الشعبى المندفع، فالكل عانى طويلا من الظلم والحرمان والتهميش على كافى الأصعدة، وما إن بدأت الثورة وتحررت المنطقة الشرقية وتشكل المجلس، حتى تفجرت هذه الطموحات على شكل مطالب ملحة تم توجيهها للمجلس مع عدم الوعى الكامل لكونه مجلس لإدارة أزمة وليس حكومة لإدارة البلاد، وهذا ما ترتب عليه عدم قدرة المجلس على تلبية هذه المطالب وزيادة تردى الأوضاع المعيشية، ونتيجة لطول فترة تشكيل الحكومة ومن ثم اجراء الانتخابات والاستقرار السياسى، قد يخلق ذلك بذورا لقلق ويأس عام من الثورة وبالتالى يساهم فى أن تنزلق البلاد نحو الفوضى لا قدر الله. رابعا: ساهمت الحرب ومنذ أن بدأت فى خلق عدد من الإشكاليات التى تتطلب معالجات فورية سريعة وإلا ساهمت فى خلق الفوضى وهذه الأشكاليات هى: معالجة الأعداد الكبيرة من الجرحى، المصالحة الوطنية، معالجة أوضاع النازحين من مدنهم فى الداخل والخارج، اتساع الحدود الجنوبية للدولة وضعف السيطرة عليها، غياب رؤية واضحة للتعامل مع افراد كتائب القذافى، الاحتياجات الإنسانية الملحة لكثير من المدن فى طرابلس واخيرا سرت وبنى وليد وسبها فى غياب السيوله المالية ونقص الأموال، توفير الأمن واستقرار المدن.
اما قيود هذا السيناريو والتى تمنع حدوثه فهى تتمثل فى: أولا وعى الثوار فقد عبروا الثوار من خلال سلوكياتهم فترة الثورة عن وعى بالمسؤلية وإدراك تام لحساسية الظرف ولم يكن امتلاكهم السلاح إلا لغاية التحرير والدفاع عن النفس ثانيا: وجود الإعلان الدستورى والذى يرسم خريطة العمل السياسى للمرحلة المقبله ثالثا: محاولات المجلس الحثيثة على تلبية الاحتياجات الملحة ومعالجة الامور الحساسة بدليل إنشاء وزارة للشهداء والجرحى، رابعا: الرغبة الشعبية العارمة فى نجاح الثورة والوصول الأمن للديمقراطية فإلى جانب الاحتياجات الملحة هناك تقدير لحساسية الظرف الراهن فكيف نخلق التوازن بين المرغوب والممنوع هذه هى الإشكالية هنا، خامسا: أن عدم الاستقرار فى ليبيا وانتشار الفوضى من شأنه قلب استقرار منطقة الشرق الأوسط بالكامل وهذا ما لم تسمح به الدول الكبرى وخاصة أمريكا.
السيناريو الثانى: وهو انتشار الإسلاميين المتطرفين، وتتمثل شروط هذا السيناريو فى: وجود عدد كبير منهم فى صفوف الثوار ورغبة بعضهم فى تغيير الأوضاع فى ليبيا نحو منهج متشدد إسلاميا، امتلاكهم للسلاح وإمكانية حصولهم على دعم خارجى أمام اتساع الحدود وغياب السيطرة التامة قد يوفر الآلية المناسبة لفرض توجههم، إمكانية انضمام أتباع ممن لديهم اطماع فى عدم نجاح الثورة اليهم قد يوفر لهم الدعم المالى المطلوب، كل ذلك يمكن الحدوث فى غياب خطاب دينى مدروس ومخطط لترسيخ الوسطية فى الاسلام التى يدين بها الشعب الليبيى.
أما قيود هذا السيناريو تتمثل فى: أن الشعب الليبيى مائة فى المائة مسلم وإسلامه وسطى وهو متدين بطبيعته ليس لأنه ينتمى لمنهج معين أو سياسة معينة وانما تدينه وسطى وسمح، لا توجد فى ليبيا طوائف مذهبية أو دينية يمكن استغلالها أو استثمارها، إلى جانب وجود رفض شعبى عام لأى تطرف أو غلو سواء لليسار أو اليمين.
السيناريو الثالث: وهو التقسيم وهو مشهد ينبغى عدم تجاهله نعم هو لا يجد ظروفه الموضوعية للحدوث ولكن سوء إدارة المرحلة الانتقالية قد يؤدى اليه والمطلوب هنا هو تحقيق العدالة الانتقالية وتوفير الأمن وعدم الإقصاء والتهميش لأى مدينة أو فئة الى جانب سرعة طرح برنامج الإدارة المقبلة وسرعة معالجة الإشكاليات الناتجة عن الحرب وأهمها المصالحة الوطنية.
●●●
وعليه فهذه سيناريوهات محتملة يمكن حدوثها إذا ما تفوقت شروطها فى السيطرة على الموقف وفرضت نفسها، وهنا فإن مهمة الخروج من كل هذه الاحتمالات السيئة هو وجود إدارة رشيدة وحازمة للبلاد تقودها إلى استقرار الأوضاع وقيام دولة الدستور والقانون، الدولة الديمقراطية التى دفع الشعب ثمنها وناضل من أجلها، فإذا ما تم قيام حكومة انتقالية قوية استطاعت أن تسيطر على البلاد وتلبى الاحتياجات الضرورية وتعالج الملفات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية الملحة، قامت دولة القانون والمؤسسات وهو السيناريو الرابع المتوقع حدوثه كذلك ولكنى آثرت أن أعرج على التحديات قبل أن أصل إلى الأمنيات.